السادة الإقطاعيون المرحومون
في زمانكم ما كان ماؤنا ملوثا ، وفي زمانهم صار إنساننا ملوثا .
في زمانكم أضاءت الكهرباء منازلنا وأحلامنا ، وفي زمانهم ضاعت أحلامنا في غياهب العتمة والظلمة .
في زمانكم كان الصراخ والسباب لوثة عقل ، وفي زمانهم غدت الشتيمة بطولة .
هآناذا اعتذر بعدما عقدت رهاني على أوهام .
وهآناذا اعتذر لأني ما أدركت أن زمانكم كان محاولة لبناء وطن ، وفي زمانهم ، ما عاد للمحاولة والمحاولين مكانا ولا أرضا ، بل فعلوا الآفاعيل لإسقاط وطن كان وليدا.
في زمانكم كان ثمة من يقول لا ، وفي زمانهم صارت ال "لا" مشنقة أقرب من حبل الوريد .
في زمانكم كان ثمة معارضون ومتظاهرون لم يرمهم أحد بالخروج من الملة والدين ، وفي زمانهم بات التظاهر كفرا بواحا يوجب قتل المتظاهرين المرتدين والمارقين والمهرطقين .
إني أعتذر
فقد خدعوني حين مددت لساني مع الصائحين باتهامكم بالرجعية ، فإذ هم ، يرجعوننا إلى ما قبل الكهرباء وإلى ما قبل الماء النظيف الذي كان يأتي مطواعا إلى منازلنا ، فلا تسممنا مرة ، ولا تجرثمت أمعاؤنا ، ولا أصابنا الحكاك من رؤوسنا حتى أخامصنا .
أيها الإقطاعيون المرحومون
في زمانكم كنا نذهب أطفالا ، ما فوق الخامسة بقليل ، إلى المدارس ، فنقطع مسافات وساعات ، ولم يكن أهلونا يهزهم اضطراب علينا ، او يعصف بهم هاجس اختطاف او حادثة مقيتة ، كما هي حالنا في زمان ما بعد زمانكم ، إذ بتنا نخشى على أبنائنا في العشرين ، أن تستقر بهم رصاصة طائشة ، او تجتاحهم دراجة نارية طائشة في بلد بات فيه الطيش رجولة ، حتى صدقت به مقولة تصفه بالبلد الطائش.
اعذروني أيها المرحومون
في زمانكم نافس لبنان بمرطباته أجود مرطبات العالم ، ف" كازوزة " جلول شمخت علوا مثل قلعة بعلبك .
في زمانكم كان الحذاء اللبناني معيارا لجودة وجمال وصناعة ، وكاد يفحم نظيره في روما ونابولي وسائر مدن الرومان ، وفي زمانهم سقطت علينا " ثقافة الأحذية "، وما أدراكم ما " ثقافة الأحذية " أيها المرحومون وساكنو المقابر؟.
في زمانكم غارت باريس من الملابس اللبنانية ، وفي لحظة ما ، بدونا أحفادا فعليين لأجدادنا في صيدا الذين اكتشفوا الأرجوان ومشتقاته فزينوا الجلود والثياب ، وزينا وتزينا بملابسنا الحديثة ، وصار لنا إسم يقارع في أسواق العالم ، فالبزة المصنوعة في بيروت بزت بزات المعمورة .
في زمانكم ، راحت دفايات "بومباني " وثلاجات " كونكورد " ، تنافس صناعات الطليان والأميركان ، أوليست تلك ، مداميك الإقتصادات الوطنية المواجهة للإمبرياليات الكبرى والصغرى وما بينهما ؟.
في زمانكم ، ما كنا نعرف من السكاكر سوى " غندور" و"لافروتا " و جبر" وبايونير" ، وكلها من أصحاب الجودة وصاحباتها ، حيث كنا نهزأ ونسخر من التركي والصيني والكوري ، كانوا وراءنا ، يا الله ، كم غدونا وراءهم في زمانهم الذي تلا زمانكم أيها الرجعيون الإقطاعيون .
السادة الإقطاعيون المرحومون .
في زمانكم ، كانت بيروت مطبعة العرب وإحدى الأمهات القليلة لمطابع العالم ، لا يغدو الشاعر شاعرا إذا لم تطبع له بيروت مجموعة شعرية ، ومن بيروت ينال المفكرون العرب شرعية وجودهم الفكري والمهني ، ومن تحجب بيروت عنه مطابعها ، فلا شاعرا يكون ولا مفكرا يستقيم ، وأما في زمانهم فقد تحولت بيروت إلى مضحكة ، يا رب العالمين : هل يدرك أصحاب هذا الزمان هول الفارق بين المطبعة والمضحكة؟.
الإقطاعيون المرحومون .
في زمانكم كان مرفأ بيروت واحة البحر ، سفن العالم كله راودته عن نفسها ، يا له من مرفأ كان ، وكيف أحيا تاريخ مرافئنا القديمة في طرابلس وجبيل وصيدا وصور ، يا له من مرفأ كان ، وكيف أعدنا من خلاله غزو العالم بحرا وتجارة ، تماما كما فعل أجدادنا الفينيقيون ذات تاريخ .
إني أعتذر
لأني ظننت الثورة تقدما ، فإذا هي حقدا على جمال نحرناه كما قال مرة نزار قباني ، كانت بيروت في زمانكم ، واحدة من مدن خمسة ، هي نيويورك وبون وباريس ولندن ، مقياسا لأي نجاح فني ، آت من هوليود ، أو من بوليود ،كان لدينا فيروز في زمانكم ، فبدت حفيدة عضوية لأوروبا إبنة ملك صور ، مع فارق أن الثانية ، غزت باسمها وجمالها ، العالم القديم ،على أجنحة ثور مخطوف ، فيما الأولى ،غزت العالم الحديث على أجنحة فنها وجمال أغانيها .
في زمانكم ، كان مطار بيروت يحتل المرتبة السابعة من بين مطارات العالم ، وفي زمانهم ، ما عاد احد يدري أين يقع هذا المطار ، هل هو في الشرق ام في الغرب ، وهل هو مطار للأنس ام للجان ؟.
أيها المرحومون
في زمانكم كان نهر الليطاني مشروع إنارة ، ومشروع غذاء ، وفي زمانهم تقمص نهر الليطاني معناه ، لعينا و ملعونا ، كما يفيدنا السريان وأهل السريانية .
إني اعتذر من بين أكوام النفايات ، حيث بات هواء لبنان العليل نفيا منفيا ، وبعدما غنيتم في زمانكم للمهاجرين أن يعودوا ، اصبح المهاجرون يرددون : وطن المنفى ولا وطن النفايات .
في زمانكم عرفنا شعراء وأدباء كبارا ، والذاكرة أضيق من عدهم وحصرهم ، وفي زمانهم بتنا نسأل : ماذا بعد هذا الشاعر المرحوم ؟ وماذا بعد ذاك الروائي الملقى على فراش الإحتضار ؟ وماذا بعدما انهارت صحافتنا واستعاض عنها ورثة الزمان بوسائل التباغض الإجتماعي ؟.
في زمانكم ، ما كانت المقاهي طائفية ، ولا الأسواق مذهبية ، وما كان ل "زبالة القوم " هوية منطقة او طائفة ، أورأيتم أيها الإقطاعيون المرحومون أين وصلنا بعد زمانكم ؟ أما أمعنتم النظر في البلاء الذي نحن به وفيه ، حيث أضحى للنفايات طوائف؟.
إني أعتذر
أنتم أيها الإقطاعيون لم تكونوا فجعانين ، ففائض خزيتنا في العام 1974 ، أي قبل حربنا العبثية بسنة واحدة ، كان ثلاث عشرة مليار ليرة بلغة ذاك الزمان ورقمه ، وأما زمانهم فهو زمان الفجعانين والشحاذين ، ولكم أن تتخيلوا واقع خزينتنا وكيف تكون الحال والأحوال حين يصبح الفجعانون ـ الشحاذون كبار الناس وأهل القمة.
في زمانكم كنا نحلم ، وفي زمانهم صار الحلم خيانة .
في زمانكم ما أكلنا لحما فاسدا ، وفي زمانهم فسدت لحومنا .
في زمانكم ما سمعنا عن أجبان غير مطابقة للمواصفات ، ومع ذلك تشجعنا عليكم شجاعة موصوفة ، وفي زمانهم ما عرفنا مسؤولا مطابقا للمواصفات ، ومع ذلك ، ضربنا الجبن وصرنا ننشد جماعات ووحدانا :
أنا في الهيجاء ما جربت نفسي/ ولكن في الهريبة كالغزال .
رحمكم الله أيها الإقطاعيون.
******
بقلم الكاتب توفيق شومان .
رسالة اعتذار إلى الإقطاع الرجعي المرحوم
رسالة اعتذار إلى الإقطاع الرجعي...لبنان الجديد
NewLebanon
كاتب هذا المقال توفيق شومان من جماعة حزب الله يعمل في تلفزيون إيران في استديو بيروت
مصدر:
وكالات محلية
|
عدد القراء:
1023
مقالات ذات صلة
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro