محمود درويش أكثر الحاضرين بين الغائبين وأكثر الغائبين بين الحاضرين , كأنه آخر الشعراء وآخر القصائد. هذا الفلسطيني العابر للأوطان والمهاجر مثل الأنبياء وطيور المواسم الى بُرك الشمس والريح خلف عتاب العتم والغيم والمطر، وهذا العربي الآتي من آخر الفتوحات بعد أن صلى صلاة القصيدة على صحراء لا يصحو فيها الاّ الشعر و السيف ولا ينام فيها من يحلم بغير الوصول الى حيث تصهل خيول الخليفة ... سقط أرضاً وهل يسقط الشهداء؟ لقد ارتفع أعلى من السماء، هو سماء فوق سماء لا يطويه سجل ولا تقيده الكلمات ولا الكتابات القديمة ولا الكتب السماوية ولا المناشير الحزبية ولا مرثيات القيادات الحكيمة ولا ما تقوله النساء على أبواب المقابر ولا الدموع وفرح الرصاص فوق نعوش الوطن ولا ورود الفتيات على الشبابيك وفوق السطوح وزعردات العجائز..
مسافر هو مع الله، لا يحده حدّ ولا يقيده قيد، تراه حيث لا يُرى بين أوراق الدفاتر يكتب أسماء المهاجرين من فلسطين دون عودة، أولئك الذين كواهم نيران الفتح ورصاص الحماس اليومي ما بين الضفة والقطاع أولئك الذين أثقلتهم هجرات الإخوة ورحلات الموت الطوعي الى مقابر مفتوحة بين مقاتلي المقاومة والثورة والتي تتسع لشعب بكامله بعد أن ضاقت به سُبُل العيش شهداء في سبيل القضية.
إقرأ أيضًا: غداء فعشاء فحكومة ...
مرحباً بك محمود درويش في دفاترنا وفي قلوبنا نحن الذين قرأناك وحفظناك غيباً دون إملاء من أحد، انتبه ثمة من يرصدك على أبواب المخيمات، ثمّة قناصون يجيدون رميّ الرصاص وإصابة أهداف كأهدافك، ولا يجيدون إصابة أهداف العدو لأنهم متخصصون في رجم الله لا الشيطان.. مرحباً بك هنا حيث الأرض مقفلة على جثتك المثقوبة برصاص طائش قتل من الأبرياء أكثر مما قُتل في كفرقاسم وقانا وصبرا وشاتيلا وتبيّن أن سكين المقاومة أحدّ من سكاكين المحتل وهي تذبح وتقطع الرؤوس على حب الله وتكبيرة الإحرام وتتقرّب بذبحهم الى الأولياء والخلفاء من أولي السلف الصالح من جماعة الرحمان الذين يمشون على جثث الكافرين من ملّة الإسلام.
هنا مكانك , هنا مرقدك حيث يقف قمر القدس وتدور أنت حوله كنجمة حالمة بموعد قريب كي لا يفوته غد جميل بعد أن فاته يوم من الانتظار على حلك الأيام .. فاسترح من وعثاء السفر اترك حقيبتك في جيبك وقرفص عند حدود العدو كيّ تأمن شرور الإخوة المشغولين بحفر القبور بين المعابر, و إن طال مكوثك فلن تشعر بالملل لأن وسائل الراحة سُتُذهب عنك متاعب الطريق وخُذ ريشة طائر منهك مثلك واكتب على سعف النخيل سوراً من الشعر كما فعل الكاتبون للوحي كيّ يتسنى للكافرين أن يقرأوا أسرار الله.
أطل غيابك كيّ ترتاح , كفاك مشقة لقد شنقتك حبال الثورة ... علقتك على عامود هو الولد البكر لصنم من قريش كانت تتقاسم تمره القبائل حين يجوع التجار, كيّ تعبد بعد رجم بحصى الفقراء وتصبح مزاراً للشهداء وتوزع قطع لحمك بخوراً على نساء الخمّارين ليحلو السكرُ مع عطر الدم المجفّف على أعواد القديسين .. فلا يكون القديس قديساً الاّ اذا تخوزق وعُلّق من رقبته حتى نؤمن بأنه رسول من عند الله لا من عند البشر الذين جعلوه إلهاً ليسهل قتله واصطياد المبشرين به.
كم قتلوك يا قديس القصيدة ؟ وكم باعوك لألف مشتر فرعوني ؟ وكم زُليخة راودتك عن نفسك ولم تبعها لشيطان الشهوة ؟ وكم صلبوك على صليب قصائدك ؟ ولكنك لم تمت بقيت حيّاً تزرع حقل العودة في البروة وعينك على عكا وقد مللت جنتك التي وعدك بها جنّ الشعر في رام الله ورحت تمزق أكفان الثورة التي لفتك كيّ لا تتحرك وتقرّرالعودة مجدداً الى منبرك لتقول الشعر الذي يرضي شعب الثورة ولا يرضي تجّار الثروة ...