من على شرفة القصر ينجلي وضوحُ الرؤيا ويبدو مشهد المدينة الشاحب، والنارُ في روما من تحت، تكاد تلتهم الستة آلاف سنة من التاريخ.
البلاد تتراقص على كفوف العفاريت، والعفاريت السياسيون يرقصون كالهنود الحمر حول لَهَبِ الجمر ويتعالى الصياح من أجل وزير إضافي، ووزير سيادي، وإين هو ذلك السيّد الذي يزفّونه الى وزارة سيادية، وزمان الأسياد ولّى منذ أن راحت عهود الميليشيات تُنْجِب الخلفاء من الجواري الأمهات.
يرهنون مخاطر المصير بوزير... ولم يبقَ من كبيرٍ إلا الجمَل، المسؤولية عندهم دعارة، والزانية تُنكِر قبضَ ثمن الزنى، إنقسموا دويلات، وقسموا السماء مذهبيات، وتقاسموا السلطة والمال، وبعثروا الدولة والحكم والأرض، والشعب لم يعد يوحِّده إلا الجوع.
فكيف يا فخامتك يكون الإصلاح والتغيير...
القيادات السياسية والمرجعيات صاحبة القرار لا تزال هي هي...
والطبقة السياسية المتوارثة أوتوماتيكياً لا تزال هي هي...
فلماذا التأليف إذاً، ما دامت الحكومة التي ستأتي ستكون على صورة الحكومة التي سترحل، وما دامت الحكومة الآتية ستؤمن الإستمرار بين العاطل الذي كان والعاطل الذي سيكون.
في علم النفس كما في مذهب العقل التجريبي، لا يمكن فصل الأحوال السابقة للعمل السياسي عن الأحوال اللاحقة، وإنّ أفعال الإنسان، كما يقول الفيلسوف الإلماني «كانت»: «تؤلف سلسلة متصلة الحلقات بعضها مرتبط ببعض إرتباطاً حتميّاً».
والشعب يا فخامتك، يحمل موته على كتفيه، وقد ضاق فيه الصبر حتى الإنفجار، في نفسه تلجُّ ثورةٌ حامية لا يقوى على البوح بها، ويتفاعل فيه هيجانٌ يتأجّج: بالكبت والحزن والقلق والخوف والضجر والهمّ والوجع والغضب والضياع والخيبة والفقر والقهر واليأس: وأبواب المستقبل موصدةٌ في وجهه بالشمع الأحمر.
وهل أمام هذا الشعب العظيم بعد، إلا ثورة صادمة ومصدومة مدفوعةً بآلية جنون اليأس الذي لا علاقة فيه للإختيار الإرادي، بلْ يصبح الخيار عنده بين غريزة الإنفلات من أجل حفظ البقاء وإرادة الحياة.. وبين الإستسلام للموت البطيء في ظل غريزة الشرعية.
إنها يا فخامة الرئيس تلك الظاهرة الشعبية نفسها التي شهدَتْها ولايتك رئيساً للحكومة، حين زحفت الجماهير الى القصر مدفوعةً «بجنون حفظ البقاء» حيث كان لا خيار: إلاّ بين الموت والحريّة.
ليس من إصلاح يتمّ ولا تغيير على يَدِ مَـنْ جرَّب وخرّب، بل بفضل طبقة سياسية جديدة، إن لم تتأمن بواسطة انتخابات مشوَّهة، فقد تتأمن بواسطة حكومة معافاة.
حكومة الأكثرية من هذا الطقم السياسي المشحون بالضغائن والحقد ستصبح حكومة ثأرية عاتية.
وحكومة الوحدة الوطنية من هذا الطقم المسعور بالمذهبية والذاتية، ستصبح حكومة انقسام وطني: خارج الحكومة وداخل الحكومة.
إذا لم يكن في لبنان بضعةٌ من النخبة الرجال، والمميزين بوطنيتهم واستقلاليتهم وحكمتهم ونزاهتهم ومؤهلاتهم العلمية والفكرية والخلقية لتأليف حكومة.. فألف سنة على هذا اللبنان..
يا فخامتك:
إذاً... فلتكن من هذه النخبة حكومة التغيير والإصلاح، وإنّ حكومةً منزّهة عن العيب والدنس لن يتجرأ أحدٌ منهم أن يحجب الثقة عنها، ولا يستطيع أحدٌ منهم أن يرشقها بحجر، وإن فعلوا، فقد يلفظهم الشعب، الذي معهم وبهم قد يلفظ أنفاسه الأخيرة.
عشتم وعاش لبنان