معركة أدلب حتمية. ما يؤخّرها، أنها «بيت عنكبوت» معقّد جداً، مخاطره ومحاذره كبيرة. المشكلة ليست في طبيعة المعركة، إنما ما العمل في مواجهة الآلاف من المقاتلين المتشددين والمتطرّفين، خصوصاً أنّ لا أحد يريدهم وبالتحديد تركيا. قتالهم يعني حتى الرجل الأخير، إلى جانب أن فرزهم ليس أمراً من الصعب تنفيذه من دون ضحايا يجب تجنّب تصفيتهم. المشكلة أن «نظام الأسد»، يفضل تصفيتهم بالجملة، وهذا ما ليس متّفقاً عليه بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية وتركيا. كلفة المعركة ضخمة في جميع حالاتها، بالفرز أو بالجملة.
تركيا مستعدّة كما يبدو للتدخّل المُنتج لحل مقبول يعفيها من مسؤولية المجزرة ومن تبعات الاستقبال المربك. في جميع الحالات، توجد مجموعات يجب تصفيتها، لأنها تشكل خطراً ثابتاً ومستمراً لفترة طويلة، لا يعرف أحد كيف ستتداخل فيها سلباً أو إيجاباً التطورات والحالات القائمة والمُتشكّلة.
طبعاً، حسم معركة إدلب، لا ينهي المشكلة السورية. أصبحت سوريا حالة معقّدة، قائمة على التوازن والتصادم والتفاهم في وقت واحد بين قوى دولية وإقليمية، تعتقد كل واحدة منها أنها صاحبة القرار حتى ولو كانت تجد نفسها مضطرة للحوار والتفاهم في ما بينها. سوريا اليوم، حالة نادرة تقع بين الاحتلال والانتداب. آخر من يقرّر فيها: ما العمل؟ هو السوري وتحديداً الرئيس بشار الأسد.
لا جدال بأنّ الروسي والأميركي، هما المقرّران أوّلاً. لكن مهما بلغت قوة قرارهما ونفوذهما، لا يمكنهما تجاهل التركي والإسرائيلي والإيراني، وإن بنسب تتفاوت بالنسبة لكل طرف منهم. إسرائيل أخذت وستأخذ أكثر مما تريده، وهو بقاء الأسد الضامن الكبير لأمن الجولان من دون عقد، لأنه ورث هذا الشرط من والده الرئيس حافظ الأسد كما ورث منه سوريا.
إسرائيل كانت قوية وهي أصبحت قوية أكثر لأنها أقوى حضوراً. إسرائيل عزّزت وضعها وشروطها، بتحالفها القديم مع الولايات المتحدة الأميركية، وبتفاهماتها الحديثة إلى درجة التحالف مع موسكو. يدها الضاربة طويلة ومتمكّنة وهي تستخدم طائراتها وصواريخها، وكأنها سلاح كاتم للصوت. الضحيّة معروفة والقاتل معروف ومجهول في الوقت نفسه.
الولايات المتحدة الأميركية موجودة في سوريا والأهم على طول الشريط الجغرافي الممتد من العراق حتى داخل سوريا. وجودها العسكري صامت رغم أنّه متحرّك. روسيا تعرف تفاصيل هذا الوجود الذي لا ترغب فيه لكنّها لا تستطيع رفضه. التفاهم على كل شيء هو الضامن للطرفَين.
روسيا فاعلة ومؤثّرة وراسمة للخرائط والمسارات، لأنها موجودة على الأرض وفي السماء. «الشرطة العسكرية» الروسية أصبحت «عصا» أمنية لا أحد يعارضها أو يرفض التعامل معها. مجرّد وقوفها على خط تماس أو داخل مدينة، يضمن الأمن للسوريين. بهذا أصبحت ضرورة في كل حلّ، تتوجه وتدعمه برضى الجميع.
إيران تبقى عقدة من الصعب حلّها ومن المستحيل تجاهلها فكيف بإلغاء التعامل معها. الإيراني قادر على تدوير الزوايا حتى ولو على حساب موقفه السياسي. قبوله بالانسحاب بعيداً عن «حدود 1974»، يجهض كل دعاويه في مواجهة إسرائيل. المهم بالنسبة للإيراني كيف يكون قراره مؤثراً في دمشق والباقي تفاصيل. قوة وجوده في محيط الأسد باقية حالياً. ما يهمّ الإيراني مستقبلاً ضمان الخط المفتوح بين دمشق وبيروت الذي عبره يتحرّك «حزب الله» ويضمن به وصول السلاح والتجهيزات وبطبيعة الحال حرّية الحركة للمقاتلين الذين لم يعد يمكن الاستغناء عن حضورهم ومشاركتهم في دعم «قوات الأسد» التي يلزمها فترة زمنية طويلة لاستعادة تشكّلها العسكري.
كل هذا مهمّ لكن الأهمّ بالنسبة للأطراف كافة، خصوصاً أنّ الخلافات والتمايزات واسعة ومتعدّدة وعميقة، هو ما العمل مع نظام الأسد وهل له بديل ومَن سيقوم ببنائه وضمانه؟
مبدئياً، الرئيس بشار الأسد باقٍ حتى نهاية «ولايته الرئاسية» أي حتى العام 2021. لكن هذا لا يكفي. السؤال كيف سيكون؟ هل يمكن أن يبقى كما كان، أم يولد من جديد ولو بثوب جديد؟ وهل يمكن أن يَتغيّر بدلاً أن يُغيّر؟
موسكو مقتنعة بضرورة حصول تغيير على مستوى الدستور والآليات وحتى الأشخاص المساعدين. لكن المهمّة ليست سهلة. أولاً الأسد يعتبر أنّه انتصر وهو الذي يُقرّر كل شيء ونقطة على السطر. يتجاهل الأسد وجود تشكّلات سياسية لها حضورها مهما كان محدوداً. موسكو وبالتفاهم مع واشنطن ترى وجوب إحداث تعديلات مهمة تنطلق من العلمانية، وتفتح الباب أمام مشاركة بعض القوى القابلة بالتغيير المحدود والمقبولة من الأسد وأركان النظام.
العقدة الثانية التي يجب التحضير لها، هي تأمين الأموال الضرورية والملحّة لإعادة البناء، وهي بأقل تقدير أكثر من 400 مليار دولار. قوّة الأميركيين في هذا الجانب هي التي تدعم كلمتهم وتجعلها نافذة في تشكيل النظام الجديد. من دون موافقة واشنطن على صياغة مستقبل سوريا، لا توجد أموال كافية لإعادة البناء.
أخيراً توجد عقدة غير ظاهرة على السطح ولكن للذين يعملون على إعادة تشكيل النظام تبدو واضحة، وهي ما العمل مع «أمراء الحرب» سواء من المجموعات التي حاربت النظام، أو التي قامت وترعرعت وتضخّمت من داخل النظام وأصبح لها وجودها وكلمتها.؟ تصفية «أمراء» المجموعات المسلّحة مهمة صعبة ولكنّها ليست مستحيلة. أما قضية «الأمراء» الذين أصبح حضورهم معروفاً، فسيتمّ حلها بالتفاهم معهم أي الابتعاد والصمت أو الاغتيال الصامت.
سوريا القديمة ماتت، سوريا الجديدة لم تولد بعد!