الأزمة السياسية تتصاعد. تشعبت، وتتسع دائرة أهداف كل طرف في طريق المحاولة لتحقيق مكتسبات أكثر. غلاف الأزمة الحصص الحكومية وعرقلة عملية التشكيل. لكن الأسباب الخفية لها تظهر تباعاً، من الاختلاف على الوجهة السياسية للبنان الرسمي في المرحلة المقبلة، لا سيما على صعيد العلاقة مع النظام السوري، إلى خلاف ضمني على الدستور وتعديله. جملة معطيات لدى كل طرف تدفعه إلى التشبّث في موقفه. القوات اللبنانية تريد تعزيز حضورها الرسمي انسجاماً مع حضورها الشعبي. الحزب التقدمي الاشتراكي يريد الحصول على الوزراء الدروز انسجاماً مع نتائج الانتخابات ورفضاً لأي محاولة لكسر وليد جنبلاط، صوصاً أنه سيمتلك بحصوله على الوزراء الثلاثة ورقة الميثاقية القادرة على عرقلة قرارات مجلس الوزراء وأعماله. أما الرئيس المكلف سعد الحريري فيسير في حقل ألغام، عينه على حلفائه الجدد والقدامى، ساعياً إلى المواءمة بين ثوابته ومقتضيات المرحلة وشروطها الواقعية.
في المقابل، أوضح التيار الوطني الحر هدفه من التشدد بالبيان الذي صدر عن المكتب الإعلامي للوزير جبران باسيل، معتبراً أن ما يجري هو معركة لعرقلة عهد الرئيس ميشال عون، من جهات محلية وخارجية معروفة. والغاية هي مواجهة هذه العرقلة بتعزيز إنطلاقة العهد. يأتي موقف باسيل بعد موقف لمّح فيه إلى اللجوء إلى الشارع للضغط على الحريري في سبيل تشكيل الحكومة. منطق تعزيز العهد، يعتبر البعض أنه يصب في اتجاه حصول التفاف عملي وضمني على الدستور، وإن لم يحصل أي تعديل رسمي. وذلك من خلال الممارسة. الأكيد، أن باسيل أراد الردّ، في البيان، على الكلام عن مساع لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة واتهام رئيس الجمهورية ورئيس التيار بها.
يتكفل هذا الكلام، بمجرد التداول به والردّ عليه، بالإشارة إلى عمق المأزق، الذي لا يمكن التوقع أمامه سوى بمزيد من التصعيد السياسي، إلى أن تحين لحظة فرض التسوية. وإلى ذلك الوقت، فإن كل طرف يتمسك بموقفه لتحسين شروطه. وليس بعيداً من هذه التطورات، جاءت قبل أيام الاختلافات الإنمائية على الساحة الشيعية، وسط حملة منظمة على ما يبدو يتعرّض لها رئيس مجلس النواب نبيه بري. وهي "حملة شعبية" على وسائل التواصل الاجتماعي، وإعلامية وسياسية، بدأت منذ تحميله مسؤولية إنعدام الإنماء في العديد من المناطق، بوصفه "شيعة الدولة"، بينما حزب الله بريء من التقصير والفساد لكونه شيعة المقاومة.
مقابل هذه الاختلافات التي سارع حزب الله وحركة أمل إلى لجمها والتأكيد أن لا صحة لها، مع تأكيد وحدة الموقف، هناك من يعتبر أن ثمة ناراً تحت الرماد في العلاقة بين الثنائي الشيعي، لا سيما في ةما يتعلّق بالوضع الإنمائي والسياسي وداخل إدارات الدولة، خصوصاً أن حزب الله يستعد للدخول بقوة إلى منظومة مؤسسات الدولة، في ظل العقوبات التي يتعرض لها. بالتالي، سيحاول تخفيف أعبائه من خلال إدخال مزيد من المنصارين والمحازبين إلى إدارات الدولة، على غرار كل القوى السياسية التي تقتات من الدولة. وهذا لا ينفصل عن كلام آخر يفيد بأن الحزب يريد توزيع المناصب والمواقع الشيعية في الدولة مناصفة بينه وبين حركة أمل. بالتالي، الاقلاع عما كان سائداً في السابق، في خصوص احتكار أمل وظائف الدولة للطائفة الشيعية. وهذا وحده سيكون كفيلاً في حصول تنافس وتضارب مصالح "تفصيلية وليس استراتيجية بالضرورة بين الطرفين".
وفيما تلتقي مصالح حزب الله والتيار الوطني الحر وبعض حلفائهما على مبدأ معين حالياً، هناك تلاق في المصالح بين القوات والاشتراكي والمستقبل. لذلك، لدى سؤال مصادر الاشتراكي بشأن تشكل جبهة معارضة للعهد أو بهدف تطويقه، تسارع المصادر إلى الإجابة بأن العهد يطوق نفسه بنفسه ولا حاجة إلى من يطوّقه. أما الكلام عن امكانية إنشاء جبهة معارضة ثورية على غرار ما حصل في العام 2005، فتستبعد مصادر الأطراف الثلاثة ذلك، مؤكدة أن الموقف سيبقى موحداً ضد محاولة إعادة لبنان إلى ما قبل العام 2005، وضد أي محاولة للقفز فوق اتفاق الطائف.
في التقاء المصالح، هناك من يعتبر أن ثمة مرتكزاً أساسياً بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وأن الطرفين يريدان الاستثمار في الأزمة الحالية على المدى البعيد، إذ إن هذا التعقيد سيقود إلى خيار من اثنين، إما فرض شروطهما وتقديم الحريري تنازلات وفق ما يريدان، أو الذهاب إلى إعادة طرح المؤتمر التأسيسي سواء أكان بالدعوة إلى طاولة حوار أو أي صيغة أخرى، بالتزامن مع بروز معلومات عن مساع لايجاد مخارج قانونية لاسقاط تكليف الحريري، بعد سقوط خيار اللجوء إلى مجلس النواب. وحينها، أي محاولة من هذا النوع ستعني إحداث تحول كبير في التركيبة اللبنانية، خصوصاً أن حزب الله يعتبر نفسه مغبوناً في النظام القائم، وبعد ما حققه من إنجازات وما قدّمه من تضحيات سيكون من حقه تعزيز وضع الشيعة في الحكم، كما تعزز موقع الموارنة في حقبة الاستقلال بناء على امتيازات خارجية ومالية، وتعزز موقع السنّة بعد الحرب بناء على تسوية خارجية مستندة إلى معايير عسكرية. واليوم، يتكرر ذلك بعد تجربة حزب الله في الحرب السورية، والتطورات التي تمر بها المنطقة.