بدأت مجموعة من البشر القدماء قبل عشرة آلاف عام بنقش رموزٍ وخطوط ذات أنماط معينة على مجموعة من الصخور الحمراء في كهفٍ في جنوب أفريقيا، ولفترة طويلة كان يُنظر إلى هذه النقوش على إنها أولى علامات ظهور قدرة البشر على رسم رموز تحمل دلالة معينة، وهو بدوره ما يُعد مؤشرًا على تطور العقل البشري، غير أن دراسة جديدة، نُشرت في مؤتمر إيفولانج- Evolang الذي أنعقد في مدينة «تورون» البولندية -وهو مؤتمر نصف سنوي يختص بدراسة تطور اللغة- كشفت أن هذه النقوش تفتقر السمات الأساسية التي تجعلها رموزًا ذات معنى، وأنها بدلًا من ذلك، قد تكون مجرد زخارف للزينة أو التسلية.
وللتوصل إلى هذه النتيجة؛ قام عالم الإدراك بجامعة أرهوس الدنماركية «كريستيان تايلين»، وفريقه من الأثريين وعلماء الإدراك، بتفحص العشرات من الرموز المنقوشة على صخور المغرة الحمراء -وهي صخور صلصالية تتكون أساسًا من أكسيد الحديد، ويتباين لونها غالبًا من الأصفر الباهت إلى الأحمر- في كهوف «بلومبوس» في جنوب أفريقيا، وكانت هذه النقوش بالتحديد، يعدُها بعض العلماء شكلًا أوليًا من الفنون، بل وحتى كدليل على تطور السلوك البشري حينها، إلى حد استخدام هذه الرموز في التعبير، بل وربما كلغة كاملة للتواصل، بالإضافة إلى ذلك، قام فريم تايلين بتفحص مجموعة من الخطوط والأشكل المتوازية التي تشبه السلالم، مرسومة على قشور لبيض النعام، تم العثور عليها في موقع أخر في جنوب أفريقيا كذلك، ويرجع تاريخ هذه النقوش إلى فترة تتراوح ما بين (109-52) ألف سنة، أي بعد ظهور جنسنا البشري على سطح الأرض، ولكن قبل انتشار أساليب التعبير الرمزية على نطاق واسع، مثل رسومات الحيوانات على جدران الكهوف.
وتوصل تايلين وفريقه إلى أن هذه النقوش كانت غالبًا للزينة، صنعها أحدهم لكي يستمتع بالنظر إلى أنماطها المختلفة، حيث أن عيون البشر كانت لتستطيع تميز هذه الأنماط بسهولة، ويرى تايلين، إنه لو كانت هذه النقوش دليلًا على تقليد أو تعبير ثقافي معين، كاللغة مثلًا، لكان عليها أن تكون مميزة أكثر، لكي يتم تميزها وتذكرها بسهولة، بحيث يتمكن سُكان الكهوف من تذكرها وإعادة نقشها مرة أخرى، ولو حدث هذا، لاستطاع الناس إلى يومنا هذا تذكر هذه النقوش وكتابتها، فضلًا عن ذلك، فإنه ومع مرور الوقت، فإن النقوش الخاصة بكل مجتمع أو قبيلة، كانت لتتمايز وتختلف عن الأصل، لأن صُناع هذه النقوش لم يكونوا ليريدوا أن يخلط الناس بين رموزهم ورموز المجتمعات الأخرى.
غير إنه إذا كانت هذه النقوش حقًا رموزًا ذات معاني محددة -كأن يُشير الخط المستقيم إلى الأفق، أو الخطوط المموجة إلى أمواج البحر- فكان يجب أن تكون أجزاؤها، أو حروفها إذا سلمنا بأنها لغة مختلفة بشكل يمكن معه تميزها عن بعضها البعض، لا أن تكون مجرد خطوط رأسية وأفقية، ولو كانت كذلك لتطور شكلها عبر الزمن بدلًا من بقائها على حالها، وكمثال معاصر على هذا، فإن الرموز التعبيرية المختلفة التي تُستخدم في مواقع التواصل الاجتماعي اليوم “Emojis” لن يكون لها معنى إذا كان لجميعها نفس الشكل.
وللتأكد من صدق فرضيته؛ قام تايلين بجمع (65) طالبًا جامعيًا دنماركيًّا، وطلب منهم فحص (24) صورة لنقوش تم استخراجها من صخور أو أصداف، ثم القيام بعدد من المهام، مثل نسخ تلك الخطوط أو تصنيفها في مجموعات مختلفة، وأراد الباحث من هذا الاختبار معرفة ما إذا كان بوسعهم التمييز بين النقوش التي جاءت من أماكن مختلفة أم لا، وما إذا كانوا سيستطيعون نسخها بدقة بعد مدة قصيرة من النظر إليها.
وأكثر هذه الاختبارات تعقيدًا كان يتضمن تعريض أحدى العينين لفيض من الأضواء الملونة المتذبذبة، بينما يتم عرض النقوش على العين الأخرى، واستغرق معظم المشاركين ما بين ثانيتين إلى اثنتى عشرة ثانية، لكي يتمكن وعيهم الإداركي من تمييز هذه الرموز، وكان الغرض من هذا الاختبار معرفة المدة التي يستغرقها المخ للتعرف على تلك الرموز، حيث أنه من المعتاد أن يميز الفرد الرموز الأكثر حداثة بشكل أسرع من القديمة، فالبشر المعاصرون يستطيعون تمييز تلك الرموز بشكل أسرع من غيرها لأن البشر القدماء اعتادوا على استخدامها بكثرة منذ آلاف السنين، وذلك على عكس نقوش جنوب أفريقيا، مما يدل أن تلك الأخيرة لم تكن منتشرة ومتداولة بكثرة كلغة أو وسيلة للتدوين أو الترميز.
وفضلًا عن ذلك؛ فقد وجد تايلين وفريقه، أن عين البشر المعاصرين تستطيع تميز تفاصيل النقوش الأحدث بشكل أفضل، كما استطاع المشاركون في الاختبار نسخها بسرعة أكبر من النقوش الأقدم، غير أنهم لم يستطيعوا التمييز بين الأماكن المختلفة التي جاءت منها هذه النقوش، كما لما يكن بمقدورهم التفرقة بين الرموز وبعضها البعض، أي أن نقوش بلومباس فشلت في أن توفي الحد الأدني لأي رمز يحمل معنى، وهو قابليته للتمييز عن غيره من الرموز الأخرى، ويضيف تايلين قائلًا: «هذا يدل على أن تلك النقوش ليست نظام رمزي له دلالات معينة، بل هى على الأرجح تحمل معانٍ مختلفة لدى كل فرد».
غير أن أحد الذين حضروا اللقاء الذي نظمه تايلين وفريقه للإعلان عن هذه النتائج، وهي «كوري ستاد» -عالمة الآثار بجامعة ساوثهامبتون في المملكة المتحدة- ترى أن النتائج التى توصل إليها تايلين ليست قاطعة، ولكنها توحى بوجود قدر من الحقيقة فيها، ولكنها بالرغم من ذلك، أبدت إعجابها بالأسلوب الذي استخدمه تايلين، وأضافت قائلة: «غالبًا ما يفترض الأثريون أن النقوش البدائية ترمز إلى أشياء معينة، ولكنهم يفتقرون إلى طريقة للتأكد من تلك الافتراضات، ولكن الطريقة التي استخدمها تايلين وفريقه قد تكون دافعًا لكثير من علماء الآثار بأن يستخدموا هذا الأسلوب المُعتمد على دراسة اللغة والإداراك البشري، وهو أمر ليس سهلاً استنتاجه من الصخور والعظام».
وتوافقها في ذلك «إيوا دتكيفيتش» من جامعة توبنغن بألمانيا، والتي تقوم بدراسة مجموعة من النقوش والنقاط والخطوط المتقاطعة، الموجودة على مجموعة من التماثيل الصغيرة، التي يرجع تاريخها إلى أربعين ألف سنة، ورغم اقتناعها بأن هذه النقوش هي رموز ذات دلالة معينة، فإنها، على حد قولها، تُرحب باستخدام طريقة تايلين لكي تعلم أكثر عن نقوشها هذه.