الواضح انّ إدارة دونالد ترامب تسعى لخنق الاقتصاد الإيراني بهدف دفع الشارع الى التحرّك بقوة اكبر بوجه السلطة الإيرانية، في سعيها لإجبار المسؤولين الإيرانيين على الجلوس حول طاولة مفاوضات مع الأميركيين وإنجاز تفاهمات سياسية في منطقة الشرق الاوسط. وتترافق العقوبات الجديدة مع ضغوط تشهدها العملة الإيرانية التي تفقد الكثير من قيمتها وبالتالي تزيد من مستوى المخاطر الاقتصادية.
وتسعى الادارة الأميركية لإحداث نقص في السلع في الأسواق والتي ستطال في بعض الجوانب ليس فقط الاحتياجات الحياتية اليومية إنما الاحتياجات الطبّية ايضاً.
وفي المقابل تعمل طهران على الالتفاف على هذه العقوبات وهو ما فعلته سابقاً ونجحت فيه من خلال الاكتفاء الذاتي والقنوات الخارجية التي خففت من وطأة العقوبات، فمثلاً باشرت طهران استقدامَ كميات من العملات الأجنبية لتعزيز احتياجاتها النقدية ودعم عملتها الخاصة بوجه الضغوط التي تتعرّض لها ووفق صحيفة «وول ستريت جورنال» فإنّ أحد هذه المصادر المانيا، حيث طلبت طهران الإذن لشحن مبلغ 300 مليون يورو نقداً موجودة لدى أحد المصارف الإيرانية في هامبورغ. لكنّ السفير الأميركي في المانيا تدخّل بطلب من رؤسائه وطلب من المسؤولين الألمان منعَ إتمام العملية وهو ما حصل.
والى جانب الضغط الاقتصادي والمالي تسعى الولايات المتحدة الاميركية لإثارة الشارع الإيراني أكثر فأكثر بوجه السلطات الإيرانية وخلق اجواء ملائمة لتوسيع دائرة التظاهرات. وقيل بأنّ مايك داندريا وهو الذي كلّفته «السي آي اي» بالملفّ الايراني، يجري تعاوناً واسعاً مع اجهزة استخبارات عربية لتوسيع دائرة التظاهرات والقلاقل خصوصاً عند غرب الأهواز والأكراد من حركة بجاك.
ومايك داندريا أو «أمير الظلام» وهو اللقب المعطى له، كان قد جرى تعيينُه منذ اكثر من سنة نظراً لسجلّه الحافل في تعقب بن لادن ومن ثمّ في دوره الاساسي في اغتيال القيادي في «حزب الله» عماد مغنية بالتعاون مع الإسرائيليين، وهو الذي اعتنق الإسلام ليتمكّن من الزواج من مسلمة.
وبدا أنّ التعليمات التي أُعطيت الى أمير الظلام حرصت على عدم ترك أيّ أثر حول وجود تدخّل خارجي في الاضطرابات كي لا يؤدّي ذلك الى إفراغها من محتواها وإجهاضها، كون الإيرانيين يضعون في الأولوية انتماءَهم القومي على أيِّ شيء آخر. والواضح انّ التركيز هو على «البازار» الذي كان أحد الاسباب الرئيسة للإطاحة بشاه ايران.
لكنّ الإيرانيين كما الأوروبيين يدركون تماماً انّ لهذه الضغوط حداً لن يتجاوزه أحد وهو ما دفع ربما بدعوة ترامب لروحاني بالتحاور المباشر من دون شروط مسبقة.
فلا إدارة ترامب مستعدة للذهاب الى المواجهة المباشرة ولا طهران تريد ذلك بطبيعة الحال، لا بل على العكس فإنّ الحنين الاميركي لا بل الهدف الرئيسي هو لاستعادة العلاقة الحميمة السابقة مع طهران ولو وفق إطار جديد يلائم انظمة الحكم في كلا البلدين.
وخلال حملته الانتخابية بنى ترامب خطابه على مبدأ الانسحاب من حروب الشرق الاوسط مع تقديم نفسه بصورة الرجل القوي الذي يحلو له استعراض وإبراز عضلاته.
ولاحقاً لتطبيق هذه الصورة من خلال فرض قواعد اشتباك اكثر عدوانية في ساحات القتال المفتوحة. واعلن ايضاً نيّته الانسحاب من سوريا ونيّة مماثلة من أفغانستان. لكنّ الانسحاب من الساحتين وفق الشروط الحالية سيكون بمثابة اعلان الهزيمة.
لذلك ذهب لمفاوضة حركة طالبان في أفغانستان وهو يريد مفاوضات اوسع واكبر مع إيران. وهو يسعى لذلك من خلال تطبيق نظرية تقول بأنّ مفتاح إنهاء عمليات التمرّد تكون باستيعاب المتمرّدين في النظام السياسي الجديد. وطالما أنّ المرحلة هي مرحلة بناء نظام سياسي جديد في الشرق الأوسط فيمكن الاستيعاب بدور واسع في المنطقة.
ورغم الضغوط الحاصلة تدرك إيران انها تملك الكثير من اوراق القوة ما يسمح لها بالرفض. ففي اليمن فشل الهجوم على الحديدة وفي سوريا لديها تفاهم «عقائدي مع الرئيس السوري، وتحالف الضرورة مع روسيا التي تلتزم المنطقة الجنوبية خالية من ايّ نفوذ إيراني لكنّها في الوقت نفسه بحاجة للعناصر الحليفة لإيران لسدّ عجز عديد الجيش السوري والتغطية البرّية التي لن تنزلق اليها موسكو.
لذلك هناك تقاطع مصالح قوي بين ايران وتركيا في سوريا حول الأكراد ونقاط اخرى.
ولدى ايران ورقة «الأشباح» التي استعملتها ضد القوات والمصالح الاميركية في الثمانينات في لبنان، والتي تتركها كورقة اخيرة في نطاق المواجهة الحاصلة.
أما في واشنطن فيبدو ترامب محشوراً في الانتخابات النصفية المهدّدة بخسارة الحزب الجمهوري.
آخر استطلاع أجرته مؤسسة غالوب اظهر انّ ترامب نجح في السيطرة على الحزب الجمهوري حيث نال تأييد 87% من الحزبيين، لكنه أكّد من جديد تراجعه على المستوى الاميركي العام حيث نال تأييد 42 % من الناخبين، وهي النسبة التي بقيت وفيّة له طوال المرحلة الماضية لأسباب اميركية داخلية واقتصادية حيث يسجّل الاقتصاد الاميركي فورة.
لكنّ معارضي ترامب يعملون تحضيراً للانتخابات النصفية بشكل حماسي وكبير ويقومون بجمع التبرّعات على عكس الجمهوريين. وتقول الاستطلاعات إنّ 58 % من الديموقراطيين متحمّسون للمشاركة في مقابل 38 % للجمهوريين وهو ما جعل الترجيحات تصبّ لمصلحة استعادة الديموقراطيين للكونغرس، مع زيادة حصتهم لـ 35 مقعداً فيما تكفي نتيجة زيادة 23 مقعداً فقط للسيطرة على الكونغرس مع الاشارة الى انّ هذه الانتخابات التي تحصل مطلع تشرين الثاني المقبل تشمل جميع اعضاء مجلس النواب الـ 435 اضافةً الى 33 عضواً في مجلس الشيوخ وهي تشكّل خصوصاً استفتاءً على سياسة الرئيس ويترتّب عليها العديد من التداعيات.
ما يعني انّ ترامب الذي يريد تطويع ايران ومن ثم تسجيل إنجاز «صفقة العصر» في سجلّه يتقدّم بحذر خشية تلقّيه نكسة غير محسوبة تزيد من تدهور شعبية الجمهوريين.
فمثلاً اطلق اخصامه قضية حول عجزه عن اطلاق سراح خمسة اميركيين محتجَزين في ايران وأحدهم احتُجز بعد وصول ترامب الى البيت الابيض. ولذلك ربما حاذرت واشنطن التورّط في موضوع استهداف الحوثيين لناقلات نفط في باب المندب، ما جعل السعودية تعلن إعادة استئناف تصديرها للنفط عبره.
في المقابل كان لافتاً أن تعلن ايران اعادة استئناف علاقاتها الديبلوماسية مع السعودية من خلال مكتب لرعاية مصالحها جرى تعيين مسؤول عنه رئيس مكتب سلطنة عمان، وهذا ليس مصادفةً بالتأكيد حيث لعبت سلطنة عمان دور الوسيط في السابق وهي مرشحة لإعادة إحياء وساطتها من جديد ربما في وقت ليس ببعيد.