لكنَّ المؤلِمَ أنَّ الحروبَ هناك تنتهي بينما أزَماتُنا هنا تَتجدَّدُ، وضَررُها لا يَقِلُّ عن ضررِ الحروب، وأزمةُ تأليفِ الحكومةِ آخِرُ تَجلِّياتِها. فإذ ننتظرُ تشكيلَ حكومةِ العهدِ الأُولى ـ على أساسِ أنَّ العهدَ رفضَ الاعترافَ بالحكومةِ الحاليّةِ ولم يُسجِّلْها على اسمِه رغمَ استعمالِها نحو سنتين ـ نَخشى أن تصبحَ حكومتُه المستقيلةُ هي ذاتُها حكومتَه الأُولى والأَخيرة، ما لم يَحسِم المعنيّون قرارَهم ويؤلِّفون حكومةً جديدةً.
تؤكّدُ مفاوضاتُ تأليفِ الحكومةِ وجودَ ثلاثةِ معطياتٍ تَتحكّمُ بها وبالوضعِ اللبناني عمومًا: التسويةُ الرئاسيّةُ، نتائجُ الانتخاباتِ النيابيّةِ، وتحوّلاتُ الشرقِ الأوسط. وإذا كان المعطَيان الأوّلان قابلَين لحلٍّ ما، فالمُعطى الثالثُ يَعصي على الحلِّ السريع. وما زادَ الوضعَ تعقيداً تَعرّضُ هذه المعطياتِ الثلاثةِ لانقلاباتٍ في الفترة الزمنيّة ذاتِها تقريباً.
الانقلابُ الأوّلُ حَصل على التسويةِ الرئاسيّةِ التي أُنجِزت سنةَ 2016 فأُصيبَت بنارٍ صديقةٍ مرّاتٍ عدّة: ظلّت صفقةً ذاتَ طابَعٍ شخصيٍّ ولم تتحوّل صيغةً ذاتَ فعلٍ وطنيٍّ. نَشأت عنها حكومةٌ متوازنةٌ عدديًّا مُختلَّةٌ سياسيّاً فتحَكّمَت قوى 8 آذار بقراراتِها الأساسيّة.
اهتزَّ استقرارُها بإعلانِ الرئيسِ سعد الحريري استقالتَه الاضطراريّةَ من أرضِ السعوديّة في 4 تشرين الثاني 2017 وبصدورِ قانونِ الانتخاباتِ ذي النسبيّةِ الهجينة. ترنَّحَ تحالفُ «القوَاتِ اللبنانيّةِ» وتيّارِ «المستقبَل» فترةً، وتَداعَى إعلانُ النيّاتِ بين «القوّاتِ» و«التيّارِ الوطنيّ الحر»، فخاضت مُكوِّناتُ التسويةِ الانتخاباتِ النيابيّةَ متفرِّقةً، فنجحَت منفرِدةً وفَشِلت مجتمِعةً. وفي المحصِّلةِ، كان حكمُ التسويةِ خائبًا.
الانقلابُ الثاني حَصل على نتائجِ الانتخاباتِ النيابيّةِ حين تَعرّضَ مفهومُ النجاحِ إلى تحريفٍ فاضحٍ: اختصرَت الكُتلُ الفائزةُ معيارَ التمثيلِ الشعبيِّ في الّذين فازوا في الاقتراعِ والّذين خَسِروا، وليس بمَنْ صوّتوا وبمن قاطعوا أيضًا، والمقاطعون كانوا الأكثريّة. هذا التفسيرُ الخاصُّ أدّى إلى إصرارِ الكُتلِ النيابيّةِ على أن تكونَ الممثِّلَ الوحيدَ للشعبِ في الحكومةِ وإقصاءِ قِوى المجتمعِ الحيّةِ.
وعلاوةً على حَصريّةِ التمثيلِ أُضيفَت معادلةُ العددِ، إذ وازَتْ الكُتلُ بين أعدادِ نوابِها وعددِ وزرائِها كأنَّ التمثيلَ عددٌ لا نوعيةٌ، والمشاركةَ حضورٌ لا تأثيرٌ. جميعُ هذه التفسيراتِ استنسابيّةٌ لا تَليق بمجتمعٍ يَضُجُّ بالكفاءاتِ غيرِ النيابيّةِ وغيرِ الحزبيّة.
الانقلابُ الثالثُ حَصل على أحداثِ الشرق الأوسط: اعترافُ دونالد ترامب بأورشليم عاصمةَ دولةِ إسرائيل ونقلُ سفارةِ أميركا إليها. إعلانُ الكنيست إسرائيلَ دولةً قوميّةً يهوديّةً ونُكرانُ مواطنيّةِ الفلسطينيّين. انتصارُ النظامِ السوريِّ، بدعمٍ إيرانيٍّ وروسيٍّ، على مختلَفِ فصائلِ المعارضَةِ واعترافُ الغربِ به مجدَّداً.
ترحيبُ إسرائيل بعودةِ الجيشِ السوريِّ النظاميِّ إلى حدودِها في الجولان مُقدَّمةً لاستئنافِ مفاوضاتِ السلام. دخولُ إسرائيل مباشرةً على خطِّ الحربِ في سوريا لتحجيمِ دورَي إيران و«حزب الله». انسحابُ الولاياتِ المتحدّةِ الأميركيّةِ من الاتفاقِ النوويِّ الإيرانيّ وفرضُها عقوباتٍ مجهولةَ الارتدادات. انتصارُ «التيّارِ الصدريِّ»، المتمايِزِ عن إيران، في الانتخابات العراقية. وأخيرًا، بروزُ روسيا لاعباً أساسيّاً في سوريا وسطَ تراخٍ أميركيٍّ وارتباكٍ خليجيّ.
جميعُ هذه «الانقلاباتِ» تُرخي بثقلِها على عمليّةِ تأليفِ الحكومةِ لأنَّ غالِبيةَ القِوى السياسيّةِ اللبنانيّةِ تَدين بقراراتها لدولٍ أجنبيّةٍ مَعنيّةٍ بدورِها بهذه التحوّلاتِ الشرقِ أوسطيّة. مِن هذه الدولِ مَن يَسعى إلى تثبيتِ لبنانَ في المحورِ الإيرانيِّ ـ السوريّ، ومنها مَن يَجهَدُ لاستعادتِه من هذا المحورِ وإعادتِه إلى حيادِه النسبيّ مع صوتٍ تفضيليٍّ للعربِ والغرب، ومنها من يأملُ إرجاعَه إلى وصايتِه المباشَرة وكأنَّ التاريخَ لم يَتغيّر.
ومقابلَ هذا التنافسِ على جِلْدِ لبنان، تَبرُز ثلاثُ تَشكيلاتٍ حكوميّةٍ بموازاةِ المعطياتِ الثلاثةِ وانقلاباتِها: تَشكيلةٌ جامعةٌ وغيرُ متوازِنةٍ لصالحِ 8 آذار، تشكيلةٌ جامعةٌ ومتوازِنةٌ لمصلحةِ الاستقرارِ، وتشكيلةٌ محصورةٌ بالأكثريّةِ النيابيّةِ تُقصي قِوى 14 آذار السابقة. وكأنَّ كلَّ تَشكيلةٍ مجلسُ وصايةٍ على العهد.
رئيسا الجمهوريّةِ والحكومةِ المكلَّفُ يُفضّلان التشكيلةَ المتوازِنةَ لكنَّ الرئيسَ ميشال عون لا يمانعُ بالتشكيلتَين الأُخْرَيَين، فيما الحريري يَتحفَّظُ على الـ«لامتوازِنةِ» ويَرفُض ذاتَ اللونِ الواحد.
أما القِوى السياسيّةُ كافّةً، فتريدُ المشاركةَ في الحكومةِ مهما كَلَّفَ الأمرُ لأنّها لا تَستلطِفُ المعارضةَ في مرحلةٍ مصيريّةٍ تُحتِّمُ الحضورَ في مجلسِ الوزراءِ فتعارِضُ أو توالي من الداخِل، خصوصاً وأن المجتمعَ الدوليَّ المعنيَّ بمساعدةِ لبنانَ إيجاباً يَنصحُ بحكومةِ وِحدةٍ وطنيّةٍ. لكنَّ تعبيرَ «المرحلةِ المصيريّةِ» يَعني لأطرافٍ مصيرَ لبنان، ولأطرافٍ أُخرى مصيرَ الصفقات.
الحكومةُ المقبلةُ مدعوةٌ لاتخاذِ قراراتٍ بالقضايا الإشكاليّةِ التالية: العلاقاتُ اللبنانيّةُ ـ السوريّةُ، آليّةُ عودةِ النازحين السوريّين، تزويدُ الجيشِ اللبنانيِّ بأسلحةٍ من دولٍ جديدةٍ، وضعُ استراتيجيّةٍ دفاعيّةٍ من وحيِ القرارَين الدوليَين 1559 و 1701، كيفيّةُ تعاملِ لبنانَ مع العقوباتِ الدوليّةِ على «حزبِ الله» وإيران، تنفيذُ القراراتِ والعقودِ المتعلِّقةِ باستخراجِ النفطِ والغاز، الإصلاحاتُ الاقتصاديّةُ والتشريعيّة، تصويبُ تموضعِ لبنانَ إقليميّاً ودوليّاً، تحضيرُ الانتخاباتِ الرئاسيّةِ، إلخ...
هذه الاستحقاقاتُ لا تَتطلّبُ حكومةَ وِحدةٍ وطنيّةٍ بالشكلِ، بل حكومةً ذاتَ نهجٍ وطنيٍّ. والنهجُ الوطنيُّ يبدأُ بتأليفِ حكومةٍ لأنَّ التأخيرَ نَقصٌ في المسؤوليّةِ الوطنيّة. وهذه الاستحقاقاتُ آتيةٌ مهما هَرَبنا منها، لكنْ بوجودِ حكومةٍ نأمَلُ أنْ نَتحكّمَ نحن بها، بينما من دونِ حكومةٍ تَتحكّمُ هي حتماً بنا.
لذا، يُفترضُ بالرئيسين عون والحريري أنْ يُوقِفا دَلَعَ الكُتلِ وجَشَعَها ويؤلِّفَا حكومةً وطنيّةً بمستوى التحدّياتِ الصعبة؛ فلا العهدُ يَحتمِلُ مزيدًا من التآكلِ، ولا البلادُ تَحتمِلُ مزيدًا من الفراغِ، ولا الشعبُ يَحتمِلُ مزيدًا من الإذلال.