ثمة شبح يجول في أركان اللوحة كأنه اللحظة الماضية، ورَجل ممددٌ على عتبة اللوحة لا ندري عما إذا كان مغمياً عليه أو متخفياً وراء درفة الخزانة المفتوحة عن عمد، ولكن كل محتويات الغرفة الهادئة غارقة بصمتها الرحيب حيث يسيطر لون التركواز وزخارف السجادة الشرقية، حتى الصور المنعكسة في المرآة لا تعرف شيئاً عن الشبح أو الرجل القتيل الذي يفتح به أسامة بعلبكي أبواب الرؤية على مصراعيها في لوحة ملغزة تكاد تكون أنموذجاً عن نتاجه الأخير الذي يعرضه في غاليري صالح بركات (كليمنصو- لغاية 25 أغسطس) تحت عنوان «ضد التيار» ويضم مجموعة من اللوحات التي تعكس عالمين مختلفين عالم الطبيعة الخارجية وعالم الفضاء الداخلي الذي تحوم فيه صورة الفنان.
فنان تشكيلي وشاعر في أعماقه ونظرته للحياة والوجود والكائنات وفي رؤاه ومزاجه ونرجسيته. من الشعر يستمد إلهاماته حتى تكاد لوحاته لا تخلو من بورتريه لشاعر أو صورة شعرية أو صدمة بصرية ناجمة عن شيء مباغت بجوار شيء آخر أليف، فحبّه لإثارة الغرابة يتبدى من خلال إحداث تجاور أو احتكاك صادم بين عنصرين متباعدين لإزاحة المنطق عن مكانته. وإذا كان الشعر يتدخل في صوغ مناخات اللوحة ورؤاها الباطنة، فإن خيانة الواقع كامنة في الجمال نفسه الذي يفتحه المشهد الطبيعي أمام الناظر. إنها الواقعية المقنّعة المقرونة بالتصورات العدمية حيت تداهم الكوابيس الأذهان ولو من باب الصورة الجميلة التي تكمن لمشاهديها على نحو من التهديد. ومثل نرسيس الذي يبحث عن صورته في المرآة كذلك أسامة بعلبكي الذي حين يفرغ من تصوير رساميه وشعرائه المفضلين، لا يجد سوى صورته في دائرة الضوء حاملاً بيده وحدة قياس، أحياناً على طريقة السيلفي أو تراه يتلمس بإصبعه عينه ليتفقدها، وهو ما بين الانكفاء أو الانكباب على تقليم أظافر قدمه الشبيهة بأظلاف الحيوان، أو يبدو في حال من الاستسلام للدوّار الذي يعصف برأسه من وطأة عدم الرضا والألم النفسي. كأن الأشياء تمشي على حافة بين ظاهر الحدوث المشهدي والفكرة الباطنة التي تحركه وتدفعه إلى ذروة المعنى في اختلاق للعدمية المتأتية من الأدب، تلك التي تستحب أن تستقي ينابيعها وإلهاماتها من التردد بين الواقع والخيال والماضي والحاضر. هذا التردد الشبيه بزمن اللقطة الفوتوغرافية والزمن الثاني الذي هو زمن اللوحة.
لعل هذا التضمين للخطاب الشعري في أعماله الفنية هو ما أعطى أسلوبه ميزاته واختلافاته الجوهرية عن رسامي الواقعية الجديدة في المشهدية المعاصرة. وواقعية أسامة بعلبكي (مواليد سنة 1978) تستقي جمالياتها من تقاليد الرسم العريقة القائمة على حركة الريشة وتعبيراتها وفورانها في طريقة التشخيص والتنضيد الضوئي على الطريقة التي تذكر بالانطباعية، في أِثر فان كوخ وسيزان، مع مذهبه الخاص في طريقة التعقيب اللوني وتوتراته، بغية الوصول إلى منظر مجبول برؤيته الشخصية ذات البعد الفلسفي المغموس بالغموض والغرابة. هكذا فإن بعلبلكي قد أبدل مسألة التأمل الممتع للمنظر، بجدلية الترقّب والتكهن لكل ما هو غامض وغير منتظر.
الترقب يتربص بالرؤية ويغذي الخيال بالصور الفاجعة والقسوة والعنف الباطني أحياناً الذي تنطوي عليه بعض المشاهد. على غرار مشهد مقبرة السيارات، أو المطرقة التي تتهاوى لتحطم لمبة، أو سيارة تدهس كلباً على طريق جبلية خالية، والصورة هذه بالأسود والأبيض... أي بتلك اللغة الأثيرة التي أطلقت اسم أسامة بعلبكي بين المصورين الجدد. والخلوّ هو جزء من تلك التصورات الخيالية التي تنساب أثناء الليل متخذة أشكالاً وصوراً تتسرب إلى نفوسنا، حتى في وضح النهار تكهنات وافتراضات عن مؤدى الصوت المكتوم لطائرة مغادرة تمزق بهديرها ثوب السماء، تكهنات تحوط الفكر في سماء نورانية بانتظار حدث ما، قد يتبدى في أدنى حركة أو أقل عنصر هامشي سرعان ما يغدو أساسياً وله دور يلعبه في ليل المكان، ولو اقتصر المنظر على مفرقعات نارية تلتمع في سماء بيروت، أو رافعة تتدلى من بناء لتقتحم سماءً مظلمة محتشدة بالغيوم. وقبة السماء هاته حيث يقبع المثل ساطعاً قد تكون مجرد استعارة، ما علينا سوى الغوص فيها للبحث عن الفكرة التي تتمحور حولها، ولكي يكون الإحساس صادقاً يجب أن يكون مباشراً وعنيفاً. هكذا ينسج أسامة بعلبكي خطابه البصري بقوة جريان الملكة التلوينية لديه، و «الملوّنون هم شعراء ملحميون» بنظر بودلير، الذين يتمكنون من اصطياد اللحظة الوجدانية الصادقة، على اعتبار أن الحقيقة هي داخل الفرد وليس خارجه.
في المعرض مناظر طبيعية بالألوان المائية لا تبتعد عن منهج الوصفية المبسطة، بالمقابل (في لوحات الأكريليك) ثمة ما يؤكد على انتعاش اليوتوبيا المتشائمة مع الأنا التي تتمحور حولها الرؤى المشهدية لشاعر يعبّر بالفن عما يحسه ويراه، وهو يعيش أدبياً فلسفة اليأس والتخيلات المفعمة بالأحاسيس الكئيبة مع الإنتاج المتواصل للخيال عن طبيعة وجود الكائن حين يكون وحيداً. هذا الوجود الذي تضيق فيه غرفة مضاءة بالأصفر المنبعث من لمبة كبيرة فوق الأريكة التي يجلس عليها الرسام أمام التلفاز قبالة مدفع حربي من لعب الأطفال موجّه نحوه في نوع من التداعي الذي يختم ليلة مرهقة. الليل يستبد في لوحات أسامة وكذلك القلق والخوف من الفوضى في سياق رؤيا عبثية عن الواقع... ومن دون رؤيا ليس هناك فردوس. الممتع في لوحة أسامة هي مقوماتها الاستيطقية التي ترتمي في النهاية في حقول التصوير الأكاديمي الباهر للمنظر التقليدي المقطوف من طبيعة الأمكنة اللبنانية بحلتها المدنية أو الجبلية والريفية، هذا ما يزاوله الفنان كأي رسام طبيعة يعرف مهنته، مهما تغير الطرح المشهدي للوحة وسبل تأويلها الأدبي، وهذا ما يفعله أيضاً كي يحمي حريته وعزلته وهذا الانبهار بالسهر كي يرينا هذا الواقع الذي يهتز في منتهى عينيه.