كانت زلة لسان الرئيس ميشال عون في عيد الجيش مثيرة للضحك، لكنها لا تبرر السخرية من هرمٍ وقع في هفوة يمكن ان يقع فيها أي كان. الردح المتبادل على مواقع التواصل الاجتماعي خرج عن حده، وهو يكاد ينتقل من العالم الافتراضي الى العالم الواقعي، اللذين لا تفصل بينهما مساحة لبنانية معقولة أصلاً، لاسيما في ضوء فراغ الاعلام التقليدي وخواء السياسة الواقعية.
مع ذلك، فإن هامش الحرية الذي تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي كان وسيبقى ضرورياً للبوح بمكنونات الصدور،مهما كانت متوترة، بدلا من تخبئتها في النفوس المضطربة، والمخاطرة بتحويلها الى عملٍ سريٍ، لا يعترف بالرأي الاخر، ولا حتى بالآخر. وأي محاولة لخنق هذا المتنفس "الصحي"نسبياً ، لن تأتي الا بنتيجة عكسية بالغة الخطورة على أمن المجتمع وإستقرار البلد. وهذه سيرة لبنان، وجميع الدول التي لجأت الى القمع فأنتجت العنف.
لكن ثمة مجالاً لنقاش سياسي لتلك الحالة التي لا يزال لبنان منشغلا بها منذ الاحتفال بعيد الجيش، والتي إتسعت لتتخذ شكل حرب شائعات وتهديدات متبادلة. ولعل الملاحظة الاولى التي يمكن تسجيلها في هذا السياق، والتي يمكن إعتبارها مقياساً لدرجة الإنفعال والتشدد في البلد عامة، هي ان جناح الرئيس عون ممثلاً بوزرائه ونوابه ومريديه،عبر عن مواقف وآراء بالغة الحدة والتطرف، لا تستقيم مع التحليل القائل ان "العهد" قوي وهو مطمئن ومستقر ..ومستمر.
والحساب ل"العهد" هو بالضرورة مختلف عن الحساب لمعارضيه اليوم الذين كانوا بالامس حلفاءه اوشركاءه الذين مكنوه من الرئاسة الاولى..حيث لايُخفى الشعور بالندم، والحسرة على الفراغ الرئاسي الذي إختبره لبنان لآكثر من عامين، من دون أن تتهاوى مؤسساته، أو أن تنهار ليرته، أو أن يشل اقتصاده أكثر مما هو مشلول اليوم. لم يكن الوصول الى "العهد"، بأي معيار سياسي أو إقتصادي أو إجتماعي، أو حتى أمني، خطوة إلى الامام.. إلا إذا كان إجراء الانتخابات النيابية وفق قانون إنتخابي هجين ومشوه، يعد تقدماً.
صحيح أن الانتخابات غيّرت الاحجام والاوزان، لكن ما يميز تيار العهد أنه الوحيد من بين جميع القوى السياسية الذي لم يعترف علناً حتى الان، بتراجع غالبيته وشعبيته، وتاليا حصته ودوره في إنتاج الحكومة الجديدة.. لكن سلوكه يعكس قدراً كبيراً من التوتر الناجم عن الاحساس بأن معادلة القوة الحالية قد تكون فرصته الاخيرة للتحول الى حزب طبيعي، حسب المعايير اللبنانية..على الرغم من أن هذه الفرصة مبنية فقط على الاستئثار بالحد الاقصى من الحصص والمناصب، من دون أي سند سياسي يوفره الدفاع المفترض عن مصالح المسيحيين وحقوقهم، والدليل هو نتائج الانتخابات التي لم تعد العونيين تفويضاً كاسحاً لإداء هذه المهمة الجليلة.
التوتر العوني الراهن مفهوم في هذا السياق، ولعله مطلوب أيضاً، لكنه يمكن ان يفرغ "العهد" من عناصر قوته الافتراضية، وما تعثر مساعي تشكيل الحكومة الجديدة، سوى مؤشر على الضعف، الذي يمكن ان يتفاقم، إذا ما تبين أن الرد الوحيد الممكن على مبالغة "العهد" في تقييم نفسه، يكون باللجوء الى خيار الفراغ الحكومي، الذي يعوض ما فات من الفراغ الرئاسي..والحنين الخفي لتلك الحقبة الذهبية، التي لم تكن أكلافها عالية أبداً.
إنتظام"العهد"في السياق السياسي الذي أتى به، يزداد إلحاحاً يوما بعد..لأنه لم تعد تنطلي على الكثيرين تلك الخدعة القائلة أنه مشروع إنقلابي على الطبقة السياسية التقليدية وفسادها وتخلفها. فالجميع سواء. وليس المنتظر سوى القليل من التواضع، في كل مكان، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي..والتصرف على أساس أن "إنتصارات" حلفائه في لبنان وفي المحيط، ليست أبدية، ولا يمكن ان تستثمر في الداخل اللبناني على هذا النحو.