في لغة المعارضة السوريّة، أو لغاتها، يلوح شيطانان: بشّار الأسد، الذي تداخله شياطين كثيرة كبوتين وخامنئي ونصر الله، وإسرائيل. الأوّل يحضر موسّعاً وبإسهاب. الثاني يحضر باقتضاب.
بطبيعة الحال فإنّ هؤلاء جميعاً يستحقّون الشيطنة التي يُرمون بها. لكنّ الشيطنة وحدها لا تكفي، خصوصاً حين تنوب عن مواجهة ما ينبغي مواجهته.
صحيح أنّ بشّار، وأباه قبله، قدّما إسهاماً كبيراً جدّاً للصورة التي استقرّ عليها المجتمع الأهليّ في سوريّة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الأخير كان له باعه الطويل في إنتاج نظام كالنظام الأسديّ الذي لم يهبط من سماء صافية. لقد أتى بهما التفتّت والتناحر الأهليّان فردّا لهما الجميل بأن ضاعفاه وغذّياه بطرق شتّى.
عدم الاهتمام بهذا التبادل التكامليّ في صنع الواقع السوريّ الراهن، وبالتالي في الإخفاق الثوريّ، يردّنا إلى خرافة الثنائيّة القديمة: شعب مقابل نظام. الأوّل واحد وحدة مقدّسة. الثاني واحد وحدة مدنّسة.
الأوصاف الإيجابيّة للأوّل (عظيم، مجيد...) والسلبيّة للثاني (فاشيّ، عنصريّ...) لا تحلّ المشكلة. إنّها تستأنف تقليداً شعبويّاً في التاريخ الثقافيّ العربيّ الحديث، يتأدّى عنه، بين ما يتأدّى، التخفّف من المسؤوليّة الذاتيّة. إنّ العنف الوحشيّ للأسد، والحال هذه، لا يعود يفسّره إلاّ العنف الوحشيّ بوصفه طبيعة أولى.
شتم إسرائيل يمرّ مرور الكرام. إلاّ أنّه شتم نوعي وكثيف: إنّها الأصل فيما نظام كنظام الأسد هو الفرع المشوّه. هذا أيضاً يستحقّ بعض التفكير، سيّما وقد جهد النظام الأسديّ لتثبيت «الاستثناء» الإسرائيليّ الذي يسوّغه كنظام عاديّ وشرعيّ. في حالة النظام، يقدّم النظام نفسه بوصفه الردّ على ذاك الأصل – الاستثناء. في حالة معارضيه، هو امتداد، ولو مشوّه، لذاك الأصل – الاستثناء.
لا شكّ في أنّ وجود إسرائيل ثمّ سلوكها ساهما في تسميم المنطقة وعسكرتها، لكنّ هذا لا يلغي التواريخ الخاصّة لكلّ واحد من السموم. إسرائيل ونظام الاستبداد الأمنيّ العربيّ تقاطعا، وغالباً ما تقاطعا حرباً، بيد أنّ كلّ طرف من الطرفين صدر عن تاريخ يخالف التاريخ الذي صدر عنه الآخر. هذا فضلاً عن أنّ السعي إلى إقامة النظام الأمنيّ والديكتاتوريّ يعود إلى ما قبل نشأة إسرائيل (بكر صدقي، رشيد عالي الكيلاني) أو يلازم نشأتها (حسني الزعيم، أديب الشيشكلي، جمال عبد الناصر). وبعد كلّ حساب، كيف نفسّر قيام أنظمة من طينة النظام الأسديّ في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة من غير أن تكون هناك إسرائيل.
هذه صيغة أخرى في التخفيف من آثار التكوين الذاتيّ والمسؤوليّة الذاتيّة. وهي تغدو فادحة حين نتذكّر الدور المهمّ للصراع مع إسرائيل في صناعة النظام الأسديّ، وهو دور مكمّل لدور التكسّر المجتمعيّ في سوريّة وسائر المشرق.
هكذا يتراءى أنّ مراجعة الحقبة الأسديّة، ثمّ مراجعة الإخفاق الثوريّ، لا تكتملان في ظلّ التمنّع عن ترسيم حدّين بين مسؤوليّتين: حدّ بين النظام والمجتمع بتركيبه العصبيّ أساساً، ولكنْ بثقافاته أيضاً، وحدّ بين إسرائيل بذاتها، واستطراداً سياستها حيال حقوق الشعب الفلسطيني، وبين تأثيرها على كلّ واحد من البلدان العربيّة والقدرة على إنشاء أنظمة ديموقراطيّة فيها. إنّ المهمّتين تتطلّبان كسر محرّمات باتت الأكلاف الباهظة، الإنسانيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، تحضّ على كسرها.