تعرضت الصدقية الروسية لتآكل سريع بعد أسبوعين من المبادرات، التي روجت لها ديبلوماسية موسكو ووسائل الإعلام التابعة لها حول سورية.
فمن خطة عودة النازحين التي اقترحتها وزارة الدفاع وجال بها وفد منها على دول الجوار وبحثها سيرغي لافروف مع الأوروبين، إلى المجزرة المروعة التي استهدفت مدينة السويداء ودروز القرى المحيطة بها تحت أعين القوات الروسية المنتشرة في محيط دمشق والجنوب السوري، إلى الدعاية بأن القوات الإيرانية ستبتعد عن الحدود مع الجولان السوري المحتل والقوات الإسرائيلية مسافة 100 كيلومتر بناء لاتفاق روسي- إسرائيلي، وصولا إلى الأنباء عن وعود الكرملين بسحب القوات الإيرانية من الميدان السوري قريباً، وانتهاء بالحديث عن التأسيس لمرحلة الحل السياسي، بدا أن أمام الكثير مما يعد به القيصر عقبات لا تحصى. وهي تبدأ بسلوك النظام السوري نفسه (هو يعلن قرب الهجوم على إدلب، وروسيا تنفيه) وبحقيقة الوجود الإيراني على الأرض ثم تراجع الجانب الروسي عن الوعد بسحبه.
وإذا كانت موسكو أتقنت وضع خطة لعودة النازحين على الورق مرفقة بخرائط وأرقام وتدابير أمنية للانتقال من دول الجوار، فإن ربطها تنفيذ هذه المهمة بتمويل أوروبي وأميركي لإعمار البنى التحتية كي يتمكن العائدون من العيش في مناطقهم، سرعان ما فهمته دول الغرب على أنه استدراج لها إلى دعم بقاء نظام الأسد اقتصادياً كي يبقى في السلطة. لدى هذه الدول قرار حاسم بربط أي توظيف مالي في البنى التحتية وعودة النازحين بعنوان أساسي هو ضمان الانتقال السياسي في سورية، وفقًا للقرار الدولي 2254، من الحكم الفردي لبشار الأسد إلى حكم يتمتع بحد أدنى من الشراكة والديموقراطية. وهي لن تقبل بأي توظيف مالي قبل ذلك. بعض مسؤولي هذه الدول لا يركن إلى الضمانات الروسية، بأن الأسد لن يخرق القواعد الدولية وأنظمة المفوضة العليا للنازحين، حول عودتهم الآمنة والطوعية، ويخشى المساءلة القانونية في حال انخرط في إعادتهم مع المخاطر على حياتهم أمنياً، وعلى عيشهم بكرامة وعلى حقوقهم السياسية وأملاكهم... حتى أن الصحافة الغربية تلوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لقبوله طلب بوتين إرسال مساعدات إنسانية تولت القوات الروسية توزيعها في الغوطة الشرقية. كما أن الديبلوماسيين الأميركيين في دول الجوار احتجوا على ترويج الجانب الروسي أن خطة العودة هي روسية - أميركية نتيجة اتفاق بوتين مع دونالد ترامب في هلسنكي في 16 الشهر الماضي. عدّلت موسكو على الأثر لهجتها وقالت إنها مقترحات منها إلى واشنطن، تنتظر جواباً عنها، فيما تعتقد واشنطن بأن التسليم ببقاء الأسد نتيجة ميزان القوى لا يعني مساعدة الروس على تثبيته في الحكم، بل تركها تتدبر هذا الخيار وحدها.
في السويداء برهنت القوات الروسية أن إدارتها السياسية لما بعد النجاحات العسكرية التي حققتها مع الإيرانيين وجيش النظام ليست بكفاءة الأسلحة المدمرة التي استخدمتها، فردت على رفض شيوخ الكرامة والشبان الذين كانوا رفضوا الالتحاق بالجيش للقتال في المناطق السورية الأخرى، بالسماح للنظام باستخدام «داعش» لتنفيذ الهجوم على القرى الدرزية لتلقين بعض الوجهاء والمشايخ درساً لرفضهم الاشتراك في المعارك في درعا خلال حزيران (يونيو) وتموز (يوليو)، ولامتناعهم عن الانخراط في الفيلق الخامس الذي أنشأته موسكو كي يكون تحت نفوذها في بلاد الشام. أثبتت موسكو أن لغة القوة ستسود مع ما تسميه هي انتهاء المعارك لمصلحة النظام وهو منطق حليفيها السوري والإيراني.
وإزاء وعدها بإبعاد الميليشيات الإيرانية وحلفائها مسافة 100 كيلومتر عن حدود الجولان، تبين أن هذه الميليشيات ما زالت موجودة في دمشق وضواحيها وكل الأبنية المحيطة بمقام السيدة زينب، وفي إحدى القواعد العسكرية القريبة، وفي محافظة القنيطرة، بدليل استمرار الطيران الإسرائيلي باستهدافها، من دون اعتراض روسي. والسفير الروسي في إسرائيل قالها بصراحة إن موسكو ليست قادرة على سحب الإيرانيين من سورية، وإن جل ما تستطيعه هو التحدث إليهم لينسحبوا ليس أكثر. فالعلاقة الروسية - الإيرانية أكثر عمقاً من محادثة طلب فيها ترامب من بوتين سحب الحرس الثوري و «حزب الله» من الميدان السوري. ومن الطبيعي أن يترك الروس لطهران فرصة استخدام ورقة وجودها في سورية في التفاوض، الذي تشير المعلومات إلى نجاح سلطنة عمان في تأمين قنوات خلفية له مع الجانب الأميركي. فإعلان ترامب عن استعداده لتفاوض بلا شروط لم يكن عن عبث، مع حاجة إيران إلى وقف العقوبات التي أطلقت تدهوراً اقتصادياً وسياسياً داخلياً غير مسبوق.