هل يُمكن لمجلس النواب أن يقوم بدوره التشريعي في ظلّ حكومة تصريف أعمال؟ سؤال مُتعدِّد الأبعاد، ولا يقف عند حدّ دستورية الطرح أو عدم دستوريته.
فكلّ المسائل في لبنان، مهما كان نوعها وغلافها، تخبّئ باطناً طائفياً أو تكون من باب «حماية» حقوق ومُستحقات الطائفة! فالروحية الميثاقية الدستورية على صعيدَي المناصفة المسيحية- الإسلامية وتخصيص مناصب لطوائف مُحدّدة عرفاً، وأهمها رئاسة الجمهورية للموارنة ورئاسة المجلس النيابي للشيعة ورئاسة الحكومة للسنّة، وُسِّعت رقعتُها لتناسب مقاييس «ملوك الطوائف».
وعند كلّ إشكالية سياسية- دستورية، يتحوّل الجدلُ طائفياً. أن يغلب المجلس النيابي الحكومة أو العكس، وأن يوحى بأن تمّ إضعاف سلطة معيّنة، يُترجَم أنّ الغلبة لطائفة مُعيّنة أو أنّ الإضعاف استهدف طائفة أخرى!
ويبدو أنّ اللبنانيين سيغرقون مجدداً في دوامة «يحق» أو «لا يحق» للمجلس النيابي التشريع بوجود حكومة تصريف أعمال، خصوصاً إنّ طال تأليف الحكومة الجديدة.
المادة 69 من الدستور، واضحة وصريحة، وتنصّ في الفقرة الثالثة على أنّ «عند استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكماً في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة». وعلى هذه المادة يبني رئيس مجلس النواب نبيه بري موقفه المُشدِّد على حق المجلس في التشريع في ظل حكومة تصريف أعمال.
عام 2013، في ظلّ حكومة تصريف أعمال برئاسة نجيب ميقاتي، قال بري إنّ «الدستور يلزم الحكومة المستقيلة بتصريف الأعمال فقط في الإطار الضيّق لتصريف الأعمال، ولا يلزم مجلس النواب كسلطة تشريع، ولا أيّ مؤسسة دستورية أخرى، فاستقالة الحكومة لا يجوز أن تكون استقالة بقيّة المؤسسات من دورها».
وبعد الجدل المُستحدَث حول هذه النقطة الدستورية، كرّر بري أمس قوله إنّ «المادة 69 من الدستور واضحة لجهة حق المجلس النيابي بالتشريع في مثل الوضع الذي نحن فيه الآن، وإنّ هناك أعرافاً سابقة حصلت حين كانت حكومات تصريف الأعمال، عدا عن آراء الخبراء وكبار الفقهاء مثل الدكتور ادمون رباط وغيره».
لكن على رغم هذا التأكيد «الدستوري» يظهر أنّ بري لا يهدف، أقله في الوقت الراهن، إلى إثارة حساسية رئيس الحكومة أو إحراجه، فعلى «رغم هذا الحق الذي لا لبس فيه وفق نصّ الدستور»، يُفضِّل بري «اتّباع سياسة التروّي كي لا تُفسَّر الأمور على غير محملها».
ميقاتي الذي كان يرأس حكومة تصريف الأعمال في تموز 2013، عند بروز هذه الإشكالية، رأى حينها أنه «من غير الجائز أن يجتمع ويشرّع مجلس النواب في ظلّ حكومة تصريف أعمال نظراً الى وجود عدم توازن بين سلطة تشريعية كاملة وبين سلطة تنفيذية ناقصة».
وقال حينها، إنه «لا يملك الحق في التفريط بصلاحيات رئاسة الحكومة، فهي ليست ملكه بل ملك المقام، ولا بدّ لأيّ رئيس حكومة أن يحترمها».
وأمس، وعلى رغم أنه لا يرأس حكومة تصريف الأعمال أو كُلِّف تأليف الحكومة الجديدة، أكّد ميقاتي على موقفه، وقال: «لا نريد أن ندخل بهذا الجدل لأنني أعتقد أنّ بري لديه الحكمة لعدم طرح هذا الموضوع في الوقت الحاضر. ولكن من حيث المبدأ فالدستور يؤكّد فصل السلطات فأعتقد أنه عندما ينعقد مجلس النواب بموجب سلطة تشريعية قوية وغياب سلطة تنفيذية بسبب الإستقالة فذلك يعني خللاً في التوازن، وبالتالي بري حريص على عدم حصول أيِّ خلل في التوازنات في لبنان». ورأى أنّ «هذا الكلام عن التشريع غيرُ جدّي».
على الصعيد الدستوري «الصَرف»، بعيداً من الحساسيات الطائفية، هل يحقّ للمجلس أن يُشرِّع؟
يرى قانونيون أنّ المادة 69 من الدستور، تشير إلى أنّ حكومة تصريف الأعمال لا تعطّل عملَ مجلس النواب، خصوصاً أنّ مهلة تأليف الحكومة غير محدّدة، وبالتالي لا يجوز شلّ عمل كلّ السلطات الدستورية إلى حين ولادة الحكومة.
في المقابل، يرى آخرون أنّ القانون لا يُصبح ملزِماً إلّا بعد إصداره من قبل رئيس الجمهورية ونشره من قبل الحكومة في الجريدة الرسمية، وبالتالي لا يجوز للمجلس أن يُشرِّع بوجود حكومة تصريف أعمال.
إذاً الجدل غير مُقتصر على السياسيين بل ينسحب على قانونيين، خصوصاً في ظلّ وجوب عدم «تحريف» الدستور، بل الأخذ بروحيّته ومراعاة الميثاقية ونيّة المُشرِّع (في اتفاق الطائف تحديداً).
في هذا الإطار، يوضح أحد المعنيين المُختصين، أنّ رئيس مجلس النواب يستطيع دعوة المجلس للانعقاد خلال الدورات العادية أو الاستثنائية، ولا يُمكنه ذلك خارجها. فخارج الدورات يُمكن للنواب أن يعقدوا اجتماعات للتشاور في أيّ موعد وأيّ مكان، ولكن لا طابع رسمياً لهذه الاجتماعات بل طابع تشاوري، ولا يُمكن أن يعطي النواب الثقة أو يشرّعوا.
ويشرح أنّ هناك أصولاً لإصدار القوانين، فمجلس النواب يقرّ القانون لكنّ رئيس الجمهورية هو مَن يصدره ويبرمه، (صدر عن رئيس الجمهورية) ضمن المهل المحدّدة، والحكومة تنشره في الجريدة الرسمية. والقانون الوحيد الذي يُمكن للمجلس النيابي أن يصدرَه من دون الأخذ برأي الحكومة أو صدوره عن رئيس الجمهورية، هو نظام مجلس النواب الداخلي، وذلك وفق مبدأ استقلالية السلطة.
كذلك، يلفت إلى أنّ الحكومة تبدي رأيها بالتشريع، وإلى أنّ القانون ينبع من مصدرَين: اقتراح القانون الذي يصدر عن النواب، ومشروع القانون الذي تُقدّمه الحكومة.
ويؤكّد أنّ الإشكال والجدل حول هذا الموضوع سياسي – طائفي لا دستوري، وأنّ وجهات النظر كلها قد تصحّ أو تخطئ، وأنه يُمكن الرجوع والاستناد إلى اجتهادات وقرارات وسوابق عدة، إلّا أنّ الأساس يبقى بـ»أخلاقية» المسؤولين والمعنيّين، فعلى هذه الأخلاقية بُني الدستور والميثاق. ويرى أنّ هناك خللاً بنيويّاً في الممارسة السياسية في لبنان، فبدل أن تساعد الممارسة بذكاء وفطنة وبحسن نيّة على تجاوز الثغرات، نفتقد الحدّ الأدنى من مراعاة النص، كما أنّ روح التشريع مفقودة.
ويُشدّد على أنّ النظام لا يستقيم إلّا بوجود السلطات الأساسية الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية.