اللقاء المُحرّم بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل حصل أخيراً بعد أن كان من سابع المستحيلات مجرّد تخيّله في الأشهر الماضية .
في تلك الأشهر ، حصل توتُّر سياسي كبير بين التيار الوطني الحرّ وحركة أمل ، وصل صداه إلى الشارع وكاد أن يتحوّل إلى حرب أهلية ( شيعة - مسيحيين ) لولا تدارك الأمور في اللحظات الأخيرة .
حينها كان بري بنظر باسيل ذاك " البلطجي " الذي يعرقل مشاريع التيار الوطني الحر ، و " رأس الفساد " الذي يهدم مسيرة الإصلاح ، و " المحتل " للمقاعد المسيحية في الجنوب اللبناني .
بالمقابل كان باسيل بنظر بري " الداعي للتطبيع مع إسرائيل " و " الفتنجي " في البلد ، و " البرغوت " الذي يُثير النعرات الطائفية والمناطقية في لبنان .
كل هذه التوصيفات الدونية والشوارعية إختفت فجأة بعد لقاء عين التينة برعاية شكلية من نائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي .
وتحوّلت لغة السباب والشتائم والتهديد إلى لغة الحوار والهموم المشتركة وحفظ مصالح الطرفين .
فما سرّ ما حصل ؟
إقرأ أيضا : عين الجميع على الثلث المعطّل في الحكومة المقبلة
التسريبات التي خرجت عن اللقاء تحدّثت أن صفحة الماضي قد طُويت بين الإثنين رغم أنّها لم تُفتح في الأساس خلال اللقاء ، بحسب ما أجمعت كل المصادر .
وأكدّت التسريبات الصحافية أن الطرفين تناولا الموضوع الحكومي ، وأن باسيل أخبر بري بأحقية مطالب التيار الوزارية ، وشكى له الحريري الذي يضع معايير خاصة به لا تُولي إهتماماً لنتائج الإنتخابات النيابية التي حصلت في ٦ أيار الماضي.
حاول بري في اللقاء عدم تحميل الحريري كافة المسؤولية عن التعطيل، في إشارة واضحة منه بأنّه متمسك بما يقوله للإعلام عن الموضوع الحكومي ، وهي دعوات عامة للتسريع بتشكيلها دون تحميل الحريري شخصياً فقط مسؤولية التعطيل.
لذلك ، فإن اللقاء يتجاوز بأهميته الموضوع الحكومي لما هو أشمل ومرتبط بالمعادلات الجديدة التي حصلت بعد الإنتخابات والمتغيرات الإقليمية التي تجري .
فمنذ إنتهاء الإنتخابات النيابية ، وجد باسيل نفسه في معضلة حقيقية ، حيث إستطاع بري بمساعدة حزب الله ودعم مطلق منه تحصيل كتلة نيابية وازنة مع الحلفاء وتحصين الساحة الشيعية من الخرق ، وكان لا بد لباسيل بالأخير أن يُسلّم بهذه الحقيقة ، وهي أن برّي رقم صعب تجاوزه في المعادلة الداخلية وسيُعرقل مسيرة العهد بل سيُفشلها إذا إستمر نفس أداء ما قبل الإنتخابات .
أضف أن باسيل أحسّ بالتقارب السياسي والمديح المتبادل بين حركة أمل والقوات اللبنانية ، في ظل نتائج القوات المبهرة في الإنتخابات ، وشعر أن برّي مُتجه لتفاهم سياسي معهم .
إقرأ أيضا : باسيل من عين التينة: بحثت مع بري كل ما يأتي بالخير للبلد
لذلك بدأت ملامح التهدئة مع بري منذ ما بعد الإنتخابات مباشرة ، حيث صوّت عدد من نواب كتلة " لبنان القوي " لصالح بري في رئاسة المجلس النيابي ، ومرّت جلسة إنتخاب رئيس للمجلس على خير ، وحصلت لقاءات عديدة بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري ، وقد دافع بري عن عون في الكثير من المحطات إعلامياً .
كذلك ، ساهم بري في إنتخاب إيلي الفرزلي نائباً له وهو حليف للتيار الوطني الحرّ وفي إنتخاب أعضاء هيئة المجلس ، وفي كل أسبوع بلقاء الأربعاء بدأ يحضره نواب من التيار .
هذه الإشارات الإيجابية مهّدت للقاء عين التينة ، وكان واضحاً أن هذا اللقاء سيحصل في يوم من الأيام .
لكن القطبة المخفية في اللقاء هو حزب الله .
فالحزب يدرك أن إيران تواجه صعوبات وضغوطات إقليمية ودولية ، سواء في سوريا أو العراق أو مع أميركا بعد إنسحابها من الإتفاق النووي ، وفي ظل العقوبات القاسية القادمة على طهران في ٦ آب المقبل ، لا بدّ لطهران من تنظيم صفوف حلفائها .
وعلى الساحة اللبنانية ، يُحاول حزب الله إنهاء جميع المشاكل الحاصلة بين حلفائه والتي تضرّر منها ، وقد سبق للسيد حسن نصر الله أن تكلّم بالموضوع وتناول بالتحديد مشكل بري - باسيل و التيّار - المردة .
وفي سياق هذا التنظيم ، يُحاول حزب الله إعادة إحياء الصيغة السياسية التي كانت موجودة قبل التسوية الرئاسية ، أي صيغة ٨ آذار المتحالفة مع التيار الوطني الحرّ.
هذه الصيغة تعرّضت لضربتين ، الأولى التسوية الرئاسية وما نتج عنها من تسوية حكومية بين عون والحريري ( تفاهمات الأستاذ نادر الحريري - الوزير جبران باسيل ) والضربة الثانية تفاهم معراب بين القوات والتيار .
ولإحياء هذه الصيغة يجب إزالة أو على الأقل التخفيف من وطأة هاتين الضربتين ، وهذا ما يحصل حالياً.
إقرأ أيضا : بري على طاولة غداء عون ... هل سيُصوّت تكتل لبنان القوي للأستاذ ؟
فالخلاف اليوم بات شديداً بين الحريري وباسيل خصوصاً بعد قرار إزاحة نادر الحريري من المشهد السياسي لتيار المستقبل ، وفي ظلّ تهديدات العهد المستمرة بتشكيل حكومة أكثرية و" تلطيش" الحريري بمهل التكليف .
وأيضاً ، تفاهم معراب أصبح شبه ساقط سياسياً ويجوز قراءة الفاتحة عليه .
هذه التطورات ، يأتي لقاء عين التينة في سياقها ، وهي رسالة فهمها الحريري جيداً بأن مفاعيل التسوية الرئاسية شارفت على النهاية والرهان على مشكل مسيحي - شيعي كان يُمكن جذب التيار الوطني الحرّ من خلاله لصفوف تيار المستقبل قد سقط ، وهذا سبب كافي لأن يشعر الحريري بعدم الراحة والإنزعاج.
أمّا على ضفّة المختارة ، فيبدو أن رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط في حالة ترّقب ، لكن بالمحصّلة وعلى المدى البعيد قد يشعر جنبلاط بأن الأمور ستعود لصالحه ، فبحال عودة ثنائية ٨ و ١٤ آذار سيعود جنبلاط لممارسة دوره المعتاد كبيضة قبَّان في النظام رغم إنزعاجه الخفي من اللقاء . ولعلّ حملة التصعيد المتبادلة بينه وبين التيار قد تُؤْتِي أكلها قريباً كما يشتهي فيدفع الوزير طلال أرسلان الثمن .
بالمقابل ، يشعر زعيم تيار المردة سليمان فرنجية بضيق الخيارات ، وهو لا شكّ أنّه منزعج أيضاً من هذا اللقاء ، لكن هذا لن يمنع حزب الله من إجراء لقاء بين فرنجية وباسيل ، وهو اللقاء الذي سيُكمل عملية تنظيم الصفوف ويُحيي تحالف ٨ آذار مع التيار من جديد .
لذلك ، فإن لقاء عين التينة يُمهّد لمرحلة سياسية قادمة قد تُعيد الإنقسام العامودي في البلد في ظلّ التصعيد الإقليمي والدولي ، لكن حقيقة واحدة لا شكّ فيها هي أن برّي لن يُحبّ باسيل والأخير كذلك.
هو لقاء الضرورة لا أكثر ، ومرتبط بلحظة تصعيد إقليمية ، تنتهي مفاعيله بإنتهاء هذا التصعيد ، إلاّ في حال نجحت محاولات الطرفين في توقيع ورقة تفاهم بينهما تُحصّن هذه العلاقة من أي خضّة سياسية وتكرّس تفاهمات ثابتة .
حينها فقط يبدأ الحديث جدياً في ملف رئاسة الجمهورية .