ما يجري بين الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل، فيه كثير من الغرابة. أسئلة عديدة تُطرح بشأن حقيقة ما يجري من خلافات وتباينات بينهما، توحي وكأن شهر العسل بين التيار الوطني الحر وتيار المستقبل قد انتهى على حدّ قول الوزير نهاد المشنوق وشخصيات من الوطني الحر. لكن، هل يعقل أن تنتهي كل الاتفاقات بين الطرفين؟ لا يبدو ذلك منطقياً، خصوصاً أن الخلاف لا يبدو جوهرياً، ولا على المضمون، بل يقتصر على الشكل. الشكل هنا هو في آلية التعاطي، أو في آلية تشكيل الحكومة وشكلها والحصص فيها. ولو كان الخلاف فعلاً سيؤدي إلى انتهاء شهر العسل، لكان الحريري قابل كل التصرفات الباسيلية ومن قبل رئيس الجمهورية ميشال عون بخطوات تصعيدية، بل إنه أقلع عن ذلك وأعلن مراراً أنه ملتزم بالتسوية، وبالعلاقة الممتازة مع الرئيس.
صحيح أن الحريري محرج في هذه المرحلة. وهو لا يحسد على إيجاد نفسه بين موقعين، إما الخصام مع رئيس الجمهورية وباسيل وهذا لا يريده، وإما الخلاف مع القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وهذا أيضاً لا يريده. ويبقى الأساس أن الحريري يريد الحفاظ على علاقته الجيدة بالمملكة العربية السعودية، ولذلك لا يريد اتخاذ أي موقف أو خطوة قد تؤدي به إلى خطأ جديد في العلاقة مع المملكة. لذلك، يصر على التمسك بحصة القوات والاشتراكي، للحفاظ على التوازن. وليس صدفة أن يقول الوزير المشنوق موقفه بشأن شهر العسل مع التيار الوطني الحر بعد زيارته إلى السعودية. هو يسلّف موقفاً كبيراً للسعودية، ويظهر كأنه يتحدّث بلسان المملكة وعقلها، بأن زمن التنازلات ولّى.
من نتائج حرج الحريري إطالة أمد تشكيل الحكومة. لكن هذا لا يعني عدم التحضير لخطّة بديلة، أو الذهاب نحو خيارات جديدة بالنسبة إليه. قد تشبه إلى حدّ بعيد المرحلة التي سبقت انتخاب عون رئيساً للجمهورية. طوال الأشهر التي سبقت جلسة الانتخاب وإعلان الحريري دعمه عون، كانت الحملات على أشدها بين المستقبل والزطني الحر، فيما المفاوضات جارية في الكواليس للإعداد للصفقة الكبرى، التي غلّفها الحريري بضرورة الخروج من الفراغ والحفاظ على المؤسسات والوضع الإقتصادي. في تلك الفترة، خرج المشنوق معلناً أنه على تيار المستقبل إتخاذ خيار من اثنين، إما التسوية أو المواجهة الكبرى. وهو كان من أول وأبرز المنظرين للتسوية مع عون.
اليوم، ثمة من يقرأ تشابهاً في موقف الحريري إزاء الحكومة، والخطّة البديلة تقف بين منزلتين، إما التسوية والإقدام على خطوات قاسية تتضمن تنازلات، وإمّا الذهاب إلى فترة أطول من تصريف الأعمال وما تتخللها من تصعيد سياسي مرتقب. ولا شك أن التصعيد المشهود بين باسيل والحريري، وتمنّعهما عن اللقاء، ورمي الكرة بشكل غير مباشر ما بينهما، أمور قد تخدم الحريري ولا تضرّه. يسدي باسيل خدمة إلى الحريري لتبرئته من تحالفات انتخابية نسجت بينهما. بالتالي، يعيد إليه مشروعية شعبية بمجرد الهجوم عليه أو قضم صلاحياته. وهذا قد يؤدي إلى تعويم صلابة الحريري. لكن البعض يخشى أن يكون ذلك مقدّمة للانقلاب مجدداً على الثوابت، وأن يكون هذا الانقلاب مغلّفاً بالخلافات الشكلية، فيما يشكّل وضع البلد، والخوف من انهيار الليرة والاقتصاد إلى الإقدام على خطوات تنازلية، يكون الحريري قد استبقها بافتعال هذه الاشكالات بينه وبين باسيل.
وأكثر من ذلك، فإن موقف الحريري الرافض أي شكل من أشكال التنسيق مع النظام السوري، يمنحه غطاء أكبر إقليمياً ومحلياً، إذ إنه المتمنّع عن التخلي عن ثوابته والإنكسار مصلحة إرادة التيار وحزب الله، خصوصاً أن العنوان الرئيس للمرحلة المقبلة سيكون إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع النظام السوري، وتفعيل اللجان الوزارية المشتركة بين البلدين. وما بدأه الوزير حسين الحاج حسن، سيتكرر مع وزراء آخرين، كوزيري الأشغال يوسف فنيانوس والزراعة غازي زعيتر، اللذين يستعدان لزيارة دمشق في الأيام المقبلة، والبحث في جملة ملفات تخصّ أعمال وزارتيهما، إلى جانب إصرار لبنان على الاستفادة من فتح المعابر بين سوريا والعراق وسوريا والأردن، وذلك لرفع نسبة الصادرات اللبنانية عبر البر. وهذا يخضع لشروط سورية، بوجوب اتخاذ لبنان إجراءات سياسية رسمية لتطبيع العلاقات، لا أن تقتصر على التنسيق الأمني. وهذا واقع سيفرض نفسه في المرحلة المقبلة، وهو ما يبرر تصعيد الحريري ومعه رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس حزب القوات سمير جعجع تجاه العلاقة مع النظام. ولكن، ما يستقيم اليوم، لن يستقيم غداً، وفق ما يوحي مسار الأمور. ما سيضع الحريري بين موقعين، إما التنازل بعد تصعيد أو التصعيد بلا أفق في انتظار متغيرات خارجية.