وقد تقرّر مساعدتهم؟ ولكن كيف؟ هل ببعض الملابس، هل ببعض السِلع؟ وحتى لو قمتَ بذلك، فستعود آخِر النهار لحياتك، لسريرك الدافئ، لمياهك النظيفة، لدوائك المتوافر، ولطعامِك اللذيذ، ، وأمّا هم فسيبقون حيث هم، جمرةً محترقةً ولا مَن يطفئها أو يسدُّ رمقَ من أكلتهم المعاناة.
ريما، تلك الصبية الثلاثينية، تقف على شرفة منزلها المطلّ على البحر، تنظر إلى البعيد، لا ترى سوى الفراغ أمامها، ولكنّه فراغ من نوع آخر، فراغ محا اللون الأزرق للبحر، وحجَبه بأكوام نفايات فيها من كلّ شيء: علب بلاستيكية ومحارم ورقية، فرشٌ ممزّقة، آلات كهربائية معطلة، دِلاء فارغة، وغيرها وغيرها. بعض هذه النفايات متراكم حتى ليكادُ يكون جبلاً، وبعضها الآخر يسبح على الشاطئ.
تسحب ريما «نفَساً» من «الأرغيلة»، ثمّ ترتشف قهوتها وعينُها على المشهد أمامها، لكنّ نظراتها فاترة وكأنّها جامدة لا حياة أو مشاعر فيها، عندما تدنو منها أكثر ترى حزناً عميقاً يكاد يفجّر في داخلها بركاناً يختزن الكثير من التعب والمعاناة: «خلِقت هون وربِيت هون، وهلّأ دور ولادي»، تقولها ريما بابتسامةٍ ساخرة، هي الابتسامة ذاتُها التي ترسمها على شفتيها وهي تتأمل ما بقيَ من البحر، وترتشف قهوتها، وحتى عندما تحرس أولادها عن بُعد، أو عندما تسألها «كِيف عايشين؟»، ابتسامة ريما هي عنوانٌ لشخصيتها، تطلّ من خلاله على قدرها وعلى الظلم الذي كُتِب لها أن تعيش فيه منذ ولادتها.
تكمِل سَيرك، ولا مفرّ لك من أن تضحّيَ برجليك لكي تعبرَ نهر المجارير، فيلفتُ انتباهَك أربعة أطفال يدورون حول بعضهم البعض، لا ألعابَ بحوزتهم ولا حتى ما يسمّونها «شحّاطات» في أرجلِهم، إذ لا يملكون أيّاً منها، تُخبر إحدى الفتيات أنّها سبحت مع أختها ورفيقتها منذ أيام، فأصِبن ليلاً بالحمّى وطفرَت أجسادهنّ بالتقرّحات، إنه التلوّث بطبيعة الحال، موضِحةً أنّ المياه التي يغتسل فيها الأهالي ملوّثة ربّما أكثر من مياه البحر.
هي رحلة الألف حكاية وحكاية، ويبدو أن لا نهاية لها، على بُعد أمتار، يقف «حيدر» أمام كومةِ نفايات، منهمكاً في البحث عمّا يمكن أن يبيعه ولو بثمنٍ زهيد، تُفاجَأ حينما تقترب منه بورَمٍ ضخمٍ في رقبته، فيَصدمك بقوله إنه مصاب بسرطان الرئة وإنه يكتفي بتناول الأدوية فقط، فهو لا يستطيع إجراء عملية لإزالته، يهزّ برأسه ويتمتِم: «أكيد بدا تجي الأمراض طالما عايشين بهالزبالة».
لن تستطيع الكلمات إيفاءَ المَشاهد حقّها، فكُثر في هذا الحي يعانون من الجرَب، آخَرون من السرطان، فيما الأكثرية لا تستطيع الحصول على مياه نظيفة للاغتسال والاستحمام.
هنا في هذا الحي، أناس من كلّ الأعمار، حُرِموا من أبسط حقوقهم الطبيعية، هنا تشعر وكأنّ هذا الحيّ في مكان آخَر من العالم خارج الجغرافيا اللبنانية التي يفترض أنّها تحت رعاية الدولة ومسؤوليتها.
بين أربعة «حيطان» وشِبه سقفٍ بلاستيكي، مشلَّع تتسرّب منه قطراتُ مياهٍ صدئة تُلاحق قاطنيهِ على مدار الساعة، بين هذه الحيطان عائلة مؤلّفة من زوجين وخمسةِ أولاد.
الأم اسمُها صبرينا عمرُها 25 سنة، تسألها: «مِش حرام تجيبي هالولاد وتْعتّريُن؟»، فتجيب بكلّ ثقة «بلا، بَس حبوب منعِ الحمل حرام، وزوجي قال لي: اللي بيجي من عند الله يا محلاه». تشيح بنظرك عنها ليلفتَ انتباهَك الابنُ البكر ابراهيم، حتماً لن تستطيع إزاحة نظرِك عنه ببساطة، فعيون ابنِ الـ 13 سنة تحمل من الهموم ما لم يخزّنه أبناء الـ 60 والـ 70: «لمّا إكبر بدّي ساعِد أهلي»، هذا جلّ ما يستطيع هذا الطفل أن يحلم به، فهو بالكاد ارتاد المدرسة لبضعة أسابيع، ويَشعر تلقائياً بأنّ الأحلام ليست لمَن هم مِثله.
يبلّل الخبز «البايت» الذي أعطته إياه أمّه بالزيت ويُطعم أخاه الأصغر، ويُشعرك الحزن المرتسم على وجهه والمتجسّد داخل جسد ابن الـ 13، وكأنّه كهل يحكي ألفَ حكاية وحكاية عن مصائب الدنيا كلّها. ظالمة هي الدنيا، حتماً.
هي عيّنة من أشخاص يعيشون في الجحيم، وقاموس مفردات البؤس يَعجز عن تقديم الوصف الحقيقي لهذا المشهد. العالم في مكان آخر، فبعضُهم حوّلوا صحراءَهم جنّة، بينما في لبنان، وفي العام 2018 ما زال البعض يعيش دون خط الإنسانية ودون أبسطِ مقوّمات العيش، يعيشون دون خط الفقر بمسافات بعيدة، فهل ثمّة من يراهم من أصحاب المناصب الرفيعة والسيارات الفخمة والقصور الخيالية؟ ربّما لا وقتَ لديهم للنظر إلى أرض الواقع، إلى الناس ووجعِ الناس وصراخ الناس، فهُم في وادٍ والناسُ وهمومهم في وادٍ آخر!