من دون أن تُسمّيه «عصياناً مدنياً»، دعت المرجعية الدينية الشعب إلى «تطوير أساليبه الاحتجاجية السلمية»، مُحذّرةً السلطات الثلاث من التنصل من تلبية مطالب المحتجين. موقف المرجعية، الذي وُصف بـ«الناري»، أسقط ــ وفق مراقبين ــ حلم «الولاية الثانية» عن حيدر العبادي، ما انعكس تكثيف الاتصالات بين «الدعويين» لتسمية رئيس الوزراء المقبل، وسط منافسة شديدة بين فالح الفياض وطارق نجم

بغداد | من مدينة كربلاء، جنوب العراق، إحدى مدن الحراك الناقم على سياسات الحكومة الاتحادية، جاء الموقف الثاني للمرجعية الدينية العليا (آية الله علي السيستاني). في الأسبوع الماضي، لم يصدر عن المرجعية موقف صريح، ما استدعى هجوماً من قِبل بعض القوى السياسية (العلمانية واليسارية منها) على السيستاني نفسه، ليردّ أنصار الأخير بحملة تضامنية يعربون فيها عن ثقتهم بمرجعهم و«دوره الإصلاحي» في البلاد. الموقف الأول جاء نهار الجمعة في 13 تموز/ يوليو الجاري، وأعلنت فيه المرجعية ــ بلسان وكيلها في كربلاء عبد المهدي الكربلائي ــ تضامنها مع المطالب الشعبية، داعيةً حكومة حيدر العبادي إلى تلبية المطالب «المحقّة»، الأمر الذي شكّل سبباً لازدياد كثافة التظاهرات، على اعتبار أن «غطاءً شرعياً» منحته المرجعية للمحتجين. 
 

أما الخطاب الثاني فجاء أمس مُنذِراً بشيء من التصعيد في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن المرجعية نفسها كانت ألمحت قبيل إجراء الانتخابات التشريعية في أيار/ مايو الماضي إلى أن مواقفها تجاه الأزمات العاصفة بالشعب ستكون أكثر حدة ووضوحاً وصادمةً للجميع. من هنا، جاء تحذير الكربلائي للحكومة الاتحادية، قائلاً إنْ «تنصلت عن العمل بما تتعهد به، أو تعطّل الأمر في مجلس النواب، أو لدى السلطة القضائية»؛ فإن الخيار الوحيد أمام الشعب هو «تطوير أساليبه الاحتجاجية السلمية لفرض إرادته على المسؤولين، مدعوماً في ذلك من قبل كل القوى الخيّرة في البلاد، وعندئذ سيكون للمشهد وجه آخر مختلف عما هو اليوم عليه».
الكربلائي ألقى كلمة مكتوبة مثّلت «خريطة طريق» للمرحلة المقبلة من منظار المرجعية، حيث دعا إلى «تشكيل حكومة في أقرب وقت ممكن»، مُشترِطاً أن «يكون رئيسها حازماً وقوياً»، في إشارة فُسّرت على أنها «سحب للبساط من تحت قدمي العبادي، ونداءٌ للقوى السياسية بضرورة اختيار شخصية تحارب الفساد، وتقوم بالإصلاح». وقال الكربلائي: «إننا طالبنا بأن يكون القانون الانتخابي عادلاً، وأن تكون المفوضية (المفوضية العليا المستقلة للانتخابات) مستقلة، ونصحنا على مر السنوات كبار المسؤولين لتفادي الوصول للمرحلة المأسوية الراهنة»، مطالِباً بتغيير الامتيازات التي تُمنح لبعض الفئات (كالبرلمانيين وغيرهم)، رافضاً ــ في الوقت عينه ــ أي اعتداء على المواطنين.


تحديد السيستاني مواصفات رئيس الوزراء المقبل وضع الكتل البرلمانية في موقف حرج، لا سيما أن الأخيرة تبدو عاجزة عن تشكيل الكتلة النيابية الأكبر التي ستسمّي رئيس الوزراء المقبل. وتحاول القوى السياسية المختلفة تأجيل أي دخول في نقاشات التشكيل قبل انتهاء «المفوضية» من إعادة احتساب أصوات المقترعين على أساس يدوي في المحافظات الـ18 (إضافة إلى اقتراع الخارج) من جهة، إلى جانب انتظارها على ما يبدو نضوج اتفاق ذي طابع إقليمي ودولي حول شكل الحكم في العراق في المرحلة المقبلة من جهة ثانية، عدا عن بعض «التفاصيل الشائكة» والتي تبرز في النقاشات بين الأحزاب الحاكمة.
وفي هذا السياق، كشفت مصادر لـ«الأخبار» أن الساعات الماضية شهدت «تكثيف حركة الاتصالات» على صعيد اختيار المرشحين للمنصب العتيد، خصوصاً بين أجنحة «حزب الدعوة الإسلامية» المحتكر للمنصب على مدى الدورات الثلاث الماضية، مضيفة أن «المنافسة شديدة، والحراك مستعر بين رئيس تجمع (عطاء) فالح الفياض المنضوي في ائتلاف النصر بزعامة العبادي، وطارق النجم على اعتبار أنه خيار الدعوة، ولا رجعة عنه». وتابعت المصادر أن العبادي أصبح «خارج حسابات أهل الرأي والجماعة (اللجنة المكلفة من حزب الدعوة باختيار رئيس الوزراء)»، إذ تجهد اللجنة في انتقاء مرشح جديد يلاقي ترحيباً داخلياً وخارجياً، ويوافق شروط المرجعية.
ورأى المحلل السياسي، هشام الهاشمي، من جهته أن «التفاهمات الحزبية حول منصب رئيس الوزراء لا تزال ضمن مرشحي الدعوة بمختلف أجنحته، وإلى الآن لم ترقَ إلى درجة الحصر بشخصيات يمكن اعتبارها الأكثر حظاً للمنصب»، مضيفاً أنه «وبشكل عام، هذا المنصب سيكون من حظ السياسي الشيعي الإسلامي القريب من إيران، وغير المتقاطع مع أميركا». بدوره، اعتبر المحلل السياسي، عباس العرداوي، أن «خطبة المرجعية الدينية رسمت الخطوط الواضحة والمسارات التي ينبغي أن تسير عليها تركيبة الحكومة المقبلة»، إذ طالب الكربلائي بـ«حكومة حازمة وقوية، ووزراء مختصين وأكفاء، وتفعيل المؤسسات الرقابية المهمة كديوان الرقابة المالية، وهيئة النزاهة». ووصف العرداوي مطالب المرجعية بأنها «تشخيص دقيق لكبح الفساد، وإيقاف هدر المال العام»، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار» أن «المرجعية أبقت خيار التظاهر والاحتجاج ورقة مفعلة، وطالبت بتنفيذ مطالب المتظاهرين، بل وحذرت من التحول إلى طرق أخرى كإنذار إلى الحكومة بعدم التهاون بعد الآن». 
وفي تعليقه على موقف المرجعية، أكد العبادي أن «كل ما دعت إليه المرجعية كان وسيبقى نصب أعيننا»، مشدداً على إصدار «العديد من الأوامر الفورية لتنفيذ المطالب الشعبية الممكنة وفق الصلاحيات المحددة، والإمكانات المالية المتوافرة، وبحسب الأولويات والتوقيتات الزمنية الممكنة»، في حين قال زعيم «تيار الحكمة»، عمار الحكيم، إن المرجعية منحت فرصة أخيرة للفائزين في الانتخابات لتحقيق الإصلاح الشامل، داعياً إلى «اجتماع عاجل على طاولة الشروط الوطنية، وليس الحزبية، للخروج برؤية موحدة لإنقاذ العراق».
وشهدت المحافظات الجنوبية، أمس، خروج مئات المتظاهرين ضد الحكومة الاتحادية، في محافظات بغداد، والبصرة، وذي قار، وواسط، وكربلاء، وميسان، حيث طالبوا بتحسين الخدمات، وتوفير الوظائف، والقضاء على الفساد، بالتوازي مع دعوة زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، الحكومة، إلى التوقف عن قمع الاحتجاجات التي تشهدها محافظات وسط البلاد وجنوبها.