ثلاثة أفعال سامية قلّما أجدها مجتمعة لتشكّل جملة بسيطة بأفضل صيغها، إلا في حالات ثنائية وأحياناً بصيغة النفي، كأن نكتب "أنا لا أكتب ولا أقرأ" أو "لا أحب أن أكتب" أو أسوأها على الإطلاق "لا أحب أن أقرأ". ثلاثة أفعال في جملة بسيطة، ستشكّل لي - دون أدنى شك - تجارب سامية.
سامية، بطلة كتاب ذي غلاف باهت تلقّيته منذ سنة ونصف سنة، وعنوان أكثر بهوتاً، يتحدّث عن قصّة فتاة صومالية عشرينية تحب رياضة الجري وتحلم أن تصبح عدّاءة.
أن تدور الأحداث في الصومال أوائل التسعينات، يعني أن يكتظّ الكتاب بحكايا ومعاناة يومية لشعب يكافح الفقر والانغلاق والحرب الأهلية ليعيش أحلامه.
سامية فتاة وُلدت في عائلة فقيرة تتقاسم المنزل مع عائلة أخرى، لا شيء مميّزاً عدا عن حلمها الذي جعلها تتمرّن وتركض في ممرات أحياء مقديشو، بأحذية رياضية بائسة، من دون مدرّب. لا شيء مميزاً عدا عن أنها تغذّت فقط على الأرز المسلوق وحلوى السمسم وكان جسدها الهزيل الذي لا يمت لأجساد الرياضيين بصلة لافتاً للنظر، لكنه لم يعجزها أن تتمكن من الانتقال من مباراة محلية إلى أخرى، لتصل إلى أولمبياد الصين 2008، وتستحوذ على اهتمام الإعلام والكاميرات بحلولها - كصومالية - في المرتبة الأخيرة!
لماذا أحشر قصة خيالية في حياتي اختلق الكاتب فيها قصة لفتاة صومالية غير واقعية تناهزني عمرا ليكمل الحلقة السردية، بينما ينقل واقع الحياة في الصومال، ومعاناة شعبها. أكملت الكتاب على مضض، وتحمّست لقرارها بالسفر إلى أوروبا والمشاركة في اولمبياد لندن 2012 لنرى إلى أين سنصل. تسافر سامية، تهريباً من مدينة إلى أخرى، وتتكبّد عناء السفر والهرب والتشرد وعدم حوز تأشيرة قانونية، لتنتقل من ليبيا إلى إيطاليا على متن زورق يكتظ بالمهاجرين، الذين اضطروا، لكثرتهم، للمخاطرة والقفز في البحر على العودة أدراجهم.
يسرد الكتاب أن سامية سمعت صوتاً داخلياً يدعوها لعدم التخلي عن حلمها، للقفز في لجة البحر المتوسط والسباحةـ رغم أنها لم تعرف البحر في حياتها ـ يذكر الكتاب عن لسان البطلة نفسها، أنها استمعت لصوتها الداخلي، وقفزت، وسبحت، ووصلت مالطا، فإيطاليا، فلندن، فالأولمبياد حيث أصبحت بطلة بعيني نفسها. انتهى.
في الصفحة التالية والأخيرة، ملاحظة من الكاتب عن أن سامية فتاة حقيقية، نمت وعاشت في الصومال وحلمت أن تصبح عدّاءة، حتى الأرز المسلوق وحلوى السمسم تفاصيل حقيقية، وأنها حين سمعت صوتها الداخلي بالدخول في لجة المياه وعبور بوابة حلمها، غرقت وتوفّيت في البحر المتوسط، مقابل شواطئ مالطا، وأن الكاتب انتقل بين الصومال وإيطالياـ حيث تقطن شقيقتهاـ ووثّق ما جمعه من روايات وأحداث تم تناقلها حولها بعدما سمع بقصة بطولتها من وسائل الإعلام.
قصصي مع الكتب التي أقرأ تشكّل لي تجارب سامية، أتذكرهاـ بالتحديد كتاب بغلاف وعنوان باهتينـ كلما سمعت أن نسبة الانتحار في لبنان تبلغ الـ 2%، وأنه يتم التبليغ عن حالة انتحار واحدة كل يومين ونصف يوم وهو معدل مرتفع نسبيا اعتمادا على عوامل عديدة جدا في مقدمتها نسيج المجتمع اللبناني الثقافي والديني.
أن أكتب عن ظاهرة الانتحار التي تفشّت أخبارها منذ شهر ونصف شهر، إثر انتحار أحد الشباب، يعني بالدرجة الأولى، أن الانتحار ليس موجةً عابرة تثير ضجة وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ثم تخبو وتهدأ، تهدأ لكنها ما زالت تتفشى وما زال الشباب يقدمون على سلوك انتحاري حتى وإن لم نعد نتحدث عنها على العلن، وصرفنا نظرنا لتناقل أحداث أخرى أكثر حداثة أو أهمية! تماما كالقضية المزدوجة التي تثيرها قصة سامية، بينها حلمها الرياضي وظاهرة التهريب والمتاجرة بالمهربين وتركهمـ حتى بعد ابتزازهم مالياًـ قشة هشة في وسط البحر.
سامية لم تنتحر، على غرار "فادي ما سقط" ، بل ركضت، بحلوى السمسم والأرز المسلوق، وحلمها ايضا لم ينتحر، عاشته في لحظاتها الأخيرة، هلوساتها قبل وفاتها، جعلتها ترى نفسها عدّاءة عالمية، بطلة تسخر من شبان يناهزونها عمرا، وليست تدري لأي سبب ينتحرون.