هذه الصورة، يرسمها مرجع كبير؛ أزمات تتوالد وتتراكم، والحبل على الجرّار مع الذهنية المعشّشة في بعض الرؤوس والنفوس. ومن الطبيعي جداً في هذه الحالة أن تنعدم الحلول والمخارج والقواسم المشتركة وأن يتعطّل كل شيء بدءاً من تأليف الحكومة الى كل الأمور الأخرى.
قبل الطائف، كانت ازمة نظام، ازمة تفرّد وامتيازات، ازمة شراكة. وأما بعده، فالمعاناة استمرّت، وفاقت فترة ما قبل الطائف بتفريخ الأزمات، وعددها ونوعيّتها، والشواهد لا تُحصى:
• أزمة نظام، مازالت هي الأساس؛ الدستور مجرّد كتاب، يطبَّق فقط حينما تقتضي المصلحة وليس وفق احكامه، ويفسَّر بحسب المزاج السياسي، واحكامه الملزمة يجري تخطّيها باستسهال فظيع، وبخلط عجيب غريب للصلاحيات، وبتواطؤ موصوف على مخالفته، على ما جرى في محطات كثيرة.
• أزمة حكم مفتوحة، تفتعلها عقلية ترفع الطائف الى مرتبة القدسية، وفي الوقت نفسه تحاول ذات العقلية أن تغرف ممّا قبله، وتُسقطه على ما بعده وتؤسّس ما يمكن تسميته بـ«دستور الهيبة» وتفرض بناءً عليه اعرافاً جديدة.
• أزمة قانون، تحكمها الاستنسابية في تطبيق القوانين، صار القانون آخر ما يحترم، والمحاصصة هي المبدأ، وجملة «يعمل بهذا القانون فور نشره في الجريدة الرسمية» صارت بلا أيِّ معنى في عشرات القوانين المعطّلة بإرادة مشتركة بين أصحاب المقامات الرفيعة، ولا مَن يحاسب، بل لا مَن يخاف مِن الحساب.
• أزمة شراكة، فاقدة لمعنى المساواة والعدالة والتوازن، لكل فريق سياسي تفسيره لها، وتطبيقها يتمّ بطريقة «ما لي هو لي وما لك هو لي ولك»، وفي بعض الاحيان «ما لك هو لي وحدي وليس لك». ثمّة امثلة كثيرة، ترد في طروحات بعض الاطراف في زمن التأليف المعطّل حالياً.
• أزمة وطنية، لكل طرف تفسيره لمعنى الوطنية، أسوأ ما يتفرّع عنها هو رغبة الاستقواء بجهات من خارج الحدود، رغبةٌ يغذيها افتراق النظرة الى لبنان كوطن وكيان بحيث لا تعرف ايّ لبنان تريد، هل لبنان العربي، لبنان الأميركي، لبنان الخليجي، لبنان السوري لبنان الإيراني؟ كأنّ لكل طرف لبنانه، هنا اصل المشكلة والصراع.
• أزمة اقتصاد، هي الأكثر تفاقماً، قد يقال إنّ عواملها خارجية وناتجة عن الازمة الاقتصادية العالمية، لكنّ العامل الداخلي، خصوصاً السياسي الحاكم أو المتحكّم، هو صاحب الدور الاساس في مفاقمة هذه الازمة سواء بالتوتير السياسي او بإقرار قوانين مرهقة للخزينة كسلسلة الرتب والرواتب. وليس في يد الطاقم السياسي ايّ حلول او مبادرات، وصار الامر ينذر بتفاقم اكبر يُخشى معه أن نصل الى وقت تفقد فيه المسكّنات التي يقوم بها مصرف لبنان مفعولها، هذا إذا لم تترتّب عليها آثار شديدة السلبية.
• أزمات في كل المفاصل الاخرى، من ازمة النفايات التي جرى تطييفها، أزمة ادارة وفساد وفوضى، أزمة شعارات من فوق، ومن تحت صفقات واتّفاقات سرّية على أكل الدولة ومواردها، وصولاً الى أزمة عدّ، ربطاً بنتائج الانتخابات، وكل طرف يقرأ نتائجه على أنها هي النتيجة النهائية للانتخابات ويريد فرضها وإلزام الآخرين بها.
المجال لا يتّسع لإيراد مسلسل الأزمات كله، القاسم المشترك بينها انها كلها مازالت حيّة، منها ما هو مشتعل ومنها ما هو جمر تحت الرماد، والبلد مقسوم على كل منها ولم يصل الطاقم السياسي الى ايجاد حلّ نهائي لأيٍّ منها، ومَن المسؤول هنا.. فالله أعلم!
يبقى أنّ أزمة التأليف مفتوحة، والجبهات السياسية مشتعلة تتقاصف بكلام من كل العيارات. وفي الموازاة اشتعلت أزمة النازحين السوريين. يغذّيها بازار المزاديات والاستثمار السياسي.
كل الأزمات خطيرة، لكنّ الأخطر هو أزمة النازحين، الروس بدأوا تحرّكاً لعله يحقق هدف لبنان بإزاحة هذا الثقل عنه، الذي زاد عن المليوني نازح بكثير، فالسنوات الاخيرة سجّلت زيادة ولادات في صفوف النازحين ما فوق الـ300 ألف ولادة.
لبنان يريد عودة النازحين، العالم كله، الصديق والشقيق وبشهادة كل المسؤولين لن يقدّم مساعدات لا آنيّة ولا مستقبلية لتوفير هذه العودة، والأعباء تتزايد والولادات ايضاً، والشحّ المالي يصرخ، ومع ذلك يتفجّر سجال داخلي هو كيفية العودة. ويدخلها في السياسة بين طرف يدعو الى الحوار مع النظام السوري لتسهيل هذه العودة، وبين طرف يرفض أن يقدّم لهذا النظام شرعيّة أو تغطية من خلال هذا الحوار.
لبنان في نهاية الامر يريد أكل العنب، لكنّ السجال مستمرّ بين الطرفين، وقد يتفاعل ربطاً بتطوّرات هذا الملف. ثمّة فكرة حلّ يطرحها احد المراجع، تقول بمبادرة رئيس الجمهورية الى الدعوة الى طاولة حوار حول النازحين لبلورة موقف لبناني موحّد. مع أنّ الطريق الأسهل لهذه العودة يتمّ عبر حوار بين الحكومتين اللبنانية والسورية. ويجب ألّا ننسى أنّ لبنان يحاور إسرائيل بشكل غير مباشر، وبرعاية الامم المتحدة وعبر الأميركيين، حول الحدود البرّية والبحرية، وكذلك عبر (اللجنة العسكرية الثلاثية المشتركة) حول المشكلات التي تحصل بين حين وآخر على الحدود.