أمر اليوم: أقفلوا رؤوسكم.
الامر ليس بدعة لبنانية خالصة، فهو نتاج الأنظمة الديكتاتورية وبوابتها لتأمين أحادية المعتقد والولاء لزعيم او حزب يحرَّم تناوله بالنقد او الاستفسار او حتى السؤال البريء التلقائي، لكن اللمسة اللبنانية الـ"اوريجينال" على هذا النتاج هي في القيمة المضافة المنبثقة من التنوع والتعددية.
اكثر من ذلك، إقفال الرؤوس يجب ان يتم وفق التزام دقيق بمبدأ ستة وستة مكرر، وذلك للحفاظ على الميثاقية، او لأن لا أحد أحسن من الآخر. ولا يعيب أهل السلطة عندنا اصرارهم على الاستنساخ، بحيث لا تبقى طائفة خارج الموجة.
وليسبح هذا الشعب العظيم في ديكتاتوريات دويلاته الطائفية، التي لا تقل سمومها عن نفاياته ومياه صرفه غير الصحي تروي نباتاته وتلوث بحره .
ولا تتوقف الموجة. تنحسر من حين الى آخر، ليس وهناً او تعباً، لكن لأن تقنية كمّ الافواه وبتر الافكار تتطلب العمل بالتقسيط المريح تارة والعنف القمعي تارة أخرى، حتى يتواصل تدجين اللبنانيين ليصيروا خاضعين بالكامل لإرهاب دويلاتهم المفرطة في عنصريتها ومذهبيتها.
بالتالي، الهندسات الفكرية للأحزاب الطائفية الغارقة في خصوصيتها والمتعلقة بقدسية المذهب والتهديد بالانقراض تحرِّم وتجرِّم وتسخِّر الأجهزة الأمنية لإستدعاء من يتطاول على تقنية المتاجرة بالدين بغية ترسيخ الزعامات والاستئثار بمقدرات البلاد انطلاقاً من حقوق الهية. وكلنا نعرف ان قدرة التطاول التي تُقمع لا تتجاوز التعبير، على اعتبار انه وحده دون سواه يمس متانة الجمهورية وتماسكها ويهدد السلم الأهلي. وعدا ذلك، الأحوال عال العال.
بالمختصر: كل الأنشطة مسموحة الا النشاط الفكري. وشرف المقدسات لا يسمح بإمرار أي هفوة. والأهم التشديد على أبناء المذهب نفسه تجنباً لخطر أعداء الداخل. فمن يرتكب خطيئة حرية التعبير يفسد ملح السلطة المعطاة لأهلها من دون سواهم، ويهدد كينونتهم.
ولأنها مسألة حياة او موت لهذه الكينونة، كان لا بد من اللجوء الى القوة المفرطة.
ولأن ارتكازات هذه القوة يجب ان تكون منزّلة ليصبح القمع شرعاً جديداَ يضاف الى شرائع آكلي الجبنة، كان لا بد من إيجاد المدخل الممنوع أي جدال بشأنه، الا وهو الدين.
لحظة، نحن لا نتكلم هنا عن الأديان السماوية التي ترسي أسس عدالة اجتماعية اذا ما أخذنا روحيتها. نحن نتكلم عن التدجيل في الدين لتصبح الهرطقات أساسه ويغيب جوهره، وتحديداً التحريض على رفض الآخر وتكفيره والخوف منه والتعامل معه وفق مبدأ: يا قاتل ..يا مقتول.
ربما من هذا المنطلق تم اختراع الداعشية السيئة الذكر، فقد أوجدوا لها امتدادات لتغزو كيانات المنطقة للتحكم بمفاصل صراعاتها وتحويلها بؤر نار تلتهب ابناءها، بعد نجاح وظيفتها الأساسية المتحورة حول القضاء على الثورة السورية وشيطنتها وتبرير جرائم محور الممانعة وقتل الشعب السوري، واستدعاء كل الشياطين الارضية وجيوشها للإبقاء على النظام الاسدي حتى لا يتقوض المحور.
وفي مرحلة سابقة، لم توفر اللمسة اللبنانية الـ"الاوريجينال" المعطى الداعشي لمصادرة مؤسسات الدولة الأمنية وإلغاء دورها. أما المرحلة الراهنة، فهي تتطلب "الدعوشة" الخاصة بكل مذهب وترسيخ أسبابها الموجبة قضم حرية التعبير من خلال منع الأفلام والاعتقالات والتوقيفات على خلفية كتابات او منشورات على صفحات التواصل الاجتماعي وتوقيف صحافيين وناشطين على خلفية رأي عابر او شكوى من فساد.
وكيف لا! فالشكوى القائمة على رأي يقرأ واقع الانهيار في السياسة والاقتصاد والاجتماع تمسّ مباشرة أبطال الإنجازات الورقية الذين من دونهم لا بلاد تؤوي العباد.
لذا لم يعد كافياً شن الحملات الالكترونية المضادة والمبرمجة والمزيفة لإخراس صاحب الرأي والانتقاد، وفيها من الشتائم والتهديدات والقرف ما يكشف حقيقة الخوف على النفوذ والسلطة وعدم التساهل تجاه أي نقاش موضوعي يحول دون اقفال الرؤوس بحزام عفة مذهبي لا يختلف عن أحزمة القرون الوسطى وان تغيّرت صيغة استخدامه، ولا يختلف عن أحزمة البؤس التي يجب ان تبقى لإستغلال الجماهير المعدمة في غوغائيات تخدم المصالح الفئوية لهذا المحور او ذاك.
وبناء عليه، حبذا لو تعفينا اللمسة اللبنانية الـ"الاريجينال" من نغمة تهديد السلم الأهلي بسبب تغريدة، فهذا السلم ممنوع في الأصل والفصل اللازم عبر تدشيم المتاريس العنصرية المطلوبة حتى يتمكن ديكتاتوريونا الأعزاء من استثمار المصالحات الفوقية مع تثمير الانقسامات المذهبية العميقة الكفيلة بتفخيخ أي سلم مأمول والقضاء على المصالحات الفعلية التي تعيد شعوب الديكتاتوريات المذهبية مواطنين وان بالحد الادنى.