ثمة من يُعد انقلاباً على الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري. انقلاب على الاتفاق المبرم معه. وهو يقابل هذه المساعي بمحاولات بث أجواء إيجابية. لكن تلك الأجواء غير مبنية، حتى الآن، على ما هو واقعي. المطّلعون على تفاصيل المداولات التي جرت في الأيام الماضية يقولون إن الوضع سيئ جداً، ويستغربون إصرار الحريري على التهدئة، ويختصرون الواقع بالقول: "لا يمكن الاستمرار بسياسة النعامة". قد يكون الرجل أخطأ في التقدير في بداية مساره التشكيلي. فهو الذي عمل على الاستثمار بالوقت على قاعدة أن أي تأخير سيصب في مصلحته. لكن الرياح عاكسته.
ليست المرّة الاولى التي تعاكس الرياح سفينة الحريري والفريق السابق الذي ينتمي إليه، أي 14 آذار. منذ العام 2005 حتى اليوم، كان الرهان على الوقت خاسراً. قالها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أكثر من مرّة، داعياً خصومه السياسيين إلى عدم الرهان على الوقت والمتغيرات الاقليمية. وغالباً ما أصاب. تأخر الحريري على خيار انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية لأكثر من سنتين. وبعد مرور كل هذه الأشهر عاد إلى هذا الخيار مختلقاً مسوغات لتبرير خياره الجديد. وحينها، حمّله خصومه مسؤولية تأخير الانتخابات الرئاسية والشغور في الموقع الأول.
هذه السياسة يصفها البعض بأنها نتاج غياب الرؤية والارتجال حيال الملفات والاستحقاقات. وهي في النهاية تؤدي إلى تصويره وكأنه خاسر مقابل تحقيق خصومه الانتصارات. قد لا ينظر الحريري بالعين نفسها إلى ما يجري من تطورات سياسية. بل يحاول مراكمة الايجابيات. لكن، في المقابل، كل تصرّف يُحسب عليه. وهنا، يضرب هؤلاء مثلاً أساسياً بشأن ما يجري. يعتبرون أن صمت الحريري تجاه البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية، الذي تحدث عن صلاحيات الرئيس وحصته بتسمية كتلة وزارية تسانده ونائب رئيس الحكومة، كان مقدمة للموقف الذي اطلقه الرئيس ميشال عون يوم الثلاثاء، واصفاً الحريري بالمخطئ في التعاطي، معلناً أنه يعطيه مهلة أسبوع قبل التحرّك.
يوم صدر البيان ذاك فُهم أن ما يجري هو صراع على الصلاحيات. حصل لقاء رؤساء الحكومات، فيما الحريري لم يكن راضياً عنه خشية استفزاز عون. وما يجري يوحي بأن ثمة من يقول للحريري كلّما تأخرت في تشكيل الحكومة ستكون كلفة ذلك أكبر عليك. فقبل أسبوع مثلاً، لم يكن رئيس الجمهورية يتحدث عن حصة السنة المعارضين، أما في كلامه الجديد فقد أشار إلى ذلك. وهذا قد ينذر بمزيد من التكاليف التي سيتكبدها رئيس الحكومة المكلف. كأن هناك من يريد أن يقول له إن انتظارك تطورات اقليمية وتغير الظروف الدولية يساعدك على التشكيل وفق شروطك، سينقلب عليك، وستضطر إلى تقديم التنازلات.
ويعتبر هؤلاء أن الحريري كان يراهن على قمة هلسنكي بين الرئيسين الاميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين وإنعكاس نتائجها على المنطقة ككل، وعلى التوافق الروسي الاميركي على تحجيم النفوذ الإيراني. لكن الأجواء جاءت معاكسة لذلك. وتفيد بعض المعطيات بأن روسيا كُلِّفت من قبل الأميركيين بالمنطقة. وهذا لن يكون على حساب إيران، كما كان متوقعاً. بل يتوقع هؤلاء أن تدخل المنطقة في المرحلة المقبلة العصر الروسي، مع وجود بعض التفاهمات حيال الوجود الإيراني، ولكن ليس على قاعدة إخراج إيران من المنطقة. وهذه ستعزز مواقع خصوم الحريري.
وقد يتجلّى ذلك في الأيام المقبلة، خصوصاً أن الحريري لا يزال مصراً على تفاؤله بقرب ولادة الحكومة. وبالعودة إلى ما حصل في الأيام الماضية، فإن الحريري ذهب إلى عون مقدّماً تشكيلة شفهية. رفضها رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. وفي حينها، كان من المفترض أن يقدّما رداً بشأنها، وأن يعقد الحريري لقاء مع باسيل، لكن اللقاء لم يحصل، إذ إن باسيل اتصّل بالحريري وقال له أن لا جديد لديه لعقد اللقاء. حينها، ردّ باسيل الكرة إلى ملعب الرئيس المكلّف، لافتاً إلى أن عليه الالتزام بالشروط والعودة إليه لعقد اللقاء. وبعد عودة الحريري من السفر ولقائه مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، رفض باسيل اللقاء مع الحريري، على القاعدة نفسها بأن لا جديد لديه. وتعمّد تسريب أن لا لقاء سيعقد بينهما،. فردّ الحريري على طريقته بأنه هو من يشكل الحكومة، ولا مانع من اللقاء مع باسيل. الخلوة التي عقدت بينهما على هامش جلسة انتخاب اللجان النيابية، الثلاثاء، مؤشر على محاولات الايحاء بانقلاب الأدوار، وبأن الحريري هو مَن يسعى إلى اللقاء مع باسيل لا العكس. ولهذا تداعيات معنوية قبل السياسية.