قد لا يكون "صوبيا" عمل الاخوين ساري وعياد خليفة الجديد واللافت بغناه وعمقه بمتناول العامة قياساً على السائد والهابط في الساحة الفنية، ولكنه حتماً عمل جميل جداً، وينتمي الى الباقي والباعث على الامل بان دائرة الابداع والأعمال الفنية الواعدة بخير. وتنتظر المتلقّي والداعم، ومن الخطأ ايضاً القول انه يقارب الموسيقى العربية من باب المعاصرة فقط، كون محتواه مفتوحا على فيوجن هويّاتي كلاسيكي وعربي وجاز بفكر رؤيوي مجتهد يعرف كيف يكتب بتناسق وموهبة كل من يملك السعة الاكاديمية والعملية التي تؤهله المرور بسلام بين مختلف مناطق مقامات ومعادلات التقطع والتقاطع بسلاسة وسهولة ليسير بينها جميعاً واثقاً بما يضيف بغنى وحيوية من يبني منطقته الموسيقية الجميلة، الغنية بقواسمها المشتركة التي تصيب تلك العوالم الصوتية الباذخة من باب ذلك المشترك فيهم بتآلف الأكاديمية الصوتية وتلقائية الموهبة العارفة الميزان بنسيج من الحب والانفتاح والذكاء. 

من يستمع لدقائق "صوبيا" وتفاصيله وينظر بتمعن الى الخطوط اللحنية لنسيجه البوليفوني، لن يتردد لحظة بالقول انه ينتمي الى الموسيقى الشرق عربية المنفتحة الافق والروح قلباً وقالباً وفكراً ليس فقط بنيّة من يحاول ان يخاطب العقل الموسيقي العربي، بل ليمشي وسطهم بذكاء على سكك ايقاع والحان وهارموني يتناسب والمميز بينهم لبناء نسيجه اللحني الجديد ليصيغ له هوية بوليفونية تناسب منابعه المحلية وترفدها بتفكير ينهل من عالميه من يطل على العالم من ابواب ونوافذ تعدد الهويات الموسيقية التي تجمع وتضيف وتبني مع غيرهم (ممن سبق وَمِمن سيأتي) للمساهمة في بناء عالماً صوتياً يصيب تلك المساحه الممتنعة والمفترضة بقدرتها على ربط العقل بالقلب ..لتصيبها في وجدانها بالتأمل على مقاس الحلم الذي يعرف كيف يكون جسوراً مقداماً ومتميزاً ولا تغرّه التصنيفات على أنواعها وأهمها تصنيف الالة (البيانو وليس التشيلو) ولا إغراءات الموسيقى الغربية المتداولة عربياً بمظاهرها المدرسية او اسقاطاتها الببغائية على مبدأ الـ"كوبي بايست" التي لا تناسب حلم الشرق بتحقيق الذات لا من باب المعاصرة ولا من باب الاصل والتفاصيل وكليشيهات التداول التي تذهب في التقليد الاعمى للغرب الى الاستهلاك الغبي لتقنياته الى حد نسيان الاصيل والجوهري في هويتنا وشخصيتنا السمعية الشرقية الجذور. "صوبيا" عمل رائع بحاجه الى اذن مرهفه متطورة كما الى عقل منفتح وفكر متطور ليتلقفه بما يوازيه من حب وتقدير وعمق ! يوجد مثلاً في مقطوعه رقم2 المسماة مونومانيا جماليات باذخة لمقام الصبا وصبا زمزم مشغولان بموهبه وذكاء.

اما في مقطوعة رقم 1 المسماة: ارض النوماد الضائعة ‏Land of lost nomads، فيتألق فيها مقاما الحجاز والبيات بسلاسه وتآلف يعرفان كيف تزيدان من اضفاء روح واجواء الشرق بثراء متناغم. 

اما المقطوعة الرابعة 4 والمسماة غالفوهوليك Gulfoholic فمبنية بإشراق على مقام الراست . في حين يمتد النهوند في ارجاء المقطوعة الخامسه 5 التي يحمل العمل اسمها "صوبيا"، ليعود النهوند / كورد ليسرح في المقطوعة السابعه المسماة ويند رايدر wind rider.

اما المثير والجميل فيكون في تعدد المقطوعات الباقية التي لا تحضر فيها انترفالات الثلاثه ارباع الصوتية كالمقامات المذكوره اعلاه، ولكنها تبقى تحتفل بملامح واضحة وراقية تستحضر روح الشرق بحضور سمعي واضح وغنى. وهذا ما يحيلنا الى طبيعة غنى عناصر النشأة والموهبة والتربية ومصادر الانتماء الموسيقى التي تحتفل بها خلفية وشخصية الموسيقيين ساري وعياد خليفه . فالجدير ذكره بل الملفت هنا ان موهبتهما ومؤهلاتهما ترعرعنا في بيوتات واجواء ومناخات موسيقية مميزة لآل خليفه وروحانا فوالدهما هو الفنان والمربي والأكاديمي العريق انطوان خليفة وعمهما فنان الشعب المرموق مرسيل خليفة اما خالهما لامهما فهو الفنان والموسيقي الاصيل والملحن والأكاديمي المحبوب الاستاذ شربل روحانا . اما الفنانان رامي وبشار خليفه فيكونان اولاد عمومتهما . وقد كبر ساري وعيّاد وترعرعا بينهم جميعاً في بيئه بحرية جبلية تطل على المتوسط وسط غنى وتنوع هذه البيئة .. ودرسا الموسيقى في لبنان في هذا الكنف بالذات كبداية ثم تخصصا في الخارج، هذا اولاً.. وكونهما شابين يافعين نسبياً بهذا العمل الذي قد يكون باكورة أعمالهما معاً هذا ثانياً، (رغم ان لهما معاً عمل سابق يجمعهما مع الفنان الموسيقي مايك ماسي) فإن هذا العمل الجديد بالذات دسم جداً ويتحمل اعاده فرزه الى عملين بكل سهولة، بمعنى ان المادة الموسيقية فيه كثيفة مكتنزة غنية.

اما عندما يبحث المرء عن اسباب وسر ثراء المادة الموسيقية وكثافتها فيجد ان احد الاسرار المتعدده الاخرى قد تقطن في كون العمل نجح بين اعمال كثيره تقدمت لنيل جائزة مؤسسة "آفاق" الميمونة لتمويل انتاج الاعمال الفنية الشابة الواعدة والرائدة التي قد لا يستطيع أصحابها إنتاجها مادياً لضيق اليد . مما قد يكون قد دفع ساري وعياد الى اشاعه غنى وتنوع هذا المضمون الموسيقي المفتوح على قدرتهما الذاتيه على هذه الاشاعه المباركه بمزيج الموهبة والقدرة الاكاديمية المفتوحة على سعه علومهما الموسيقية التي تكتنزها خلفيتهما المشرعه على الامتنان والشعور بالمسؤوليه ! شكراً إذن لمؤسسة آفاق على ما قامت وتقوم به من اشاعة المواهب الحقيقية على العلن وسط كل هذا الانحدار المريع الذي ترجمنا به وسائل المرئي والمسموع وشكراً لساري وعياد ولها مره اخرى على ما يشي بأن الروح فينا في شعوبنا ما زالت قادرة على القول بأن الامل ما زال موجوداً. 

(عمار مروه)