أظهرت قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين، خفة في شخص ترامب وهشاشة وسوء تعبير في خطابه، وثقة في شخص بوتين وقوة في خطابه. ما يرجح أن يكون بوتين قد حصد ثمار هذه القمة، وثبَّت موقفه وموقع دولته روسيا في أكثر الملفات الدولية، وأهمها ملف أوكرانيا وسوريا وتبرئته المجانية من التلاعب الالكتروني بالانتخابات الرئاسية في أميركا. كانت كل ملفات القمة ثانوية بالمقارنة مع مشكلة الاختراق الروسي للانتخابات الأمريكية الأخيرة التي كادت تكون صلب لقاء ترامب وبوتين، حيث بدا الشخصان في جبهة واحدة ضد مؤسسة الاستخبارات الأمريكية بعد أن أثبتت تقاريرها وجود اختراقات روسية خطيرة في مسار الانتخابات الأمريكية.
تصريحات ترامب وتبرئته المجانية لبوتين وتكذيبه أجهزة الاستخبارات الأمريكية، استدعى استنفار واستياء الجسم السياسي الأمريكي بشقيه، الديمقراطي والجمهوري. حيث اعتبر أحد أهم رموز الجمهوريين (جون ماكاين) أن قمة ترامب بوتين أسوأ لحظات الدبلوماسية الأمريكية في تاريخ أميركا، لما أظهرته هذه الدبلوماسية من تشتت في الرؤية وضعف في المواقف وتنازلات بالجملة لصالح روسيا وشخصانية اعتباطية في أداء ترامب لم تعد تثير استنكار خصومه الديمقراطيين فحسب، بل وضعت الجمهوريين من حزبه في حالة ارتباك وقلق شديدين تجاه عهد رئاسي: لا يحترم مؤسسات الدولة، وينتقص من كفاءة أجهزتها، ويكذب إعلامها، ويعمق الخلافات مع حلفائها التقليديين في الناتو ويصفهم بالأعداء (Foes)، وينسف صدقية هذه الدولة بسبب نقضها التزاماتها ومعاهداتها الدولتين، إضافة إلى غياب أية رؤية استراتيجية في التعامل مع الملفات المحلية والدولية.
كل ذلك يجعل مشكلة ترامب داخل الولايات المتحدة تتعدى معضلة الأداء والرؤى والكفاءة، لتصبح مشكلة رئاسة ذات صلاحيات واسعة تعمد إلى زعزعة مؤسسات الدولة ونسف صدقيتها وتشويش النقاش الديمقراطي والتحايل على القانون وهتك الحقوق والمجاهرة بالمواقف العنصرية وخلق زبائنية سياسية تسهم بقوة في تعطيل العملية الديمقراطية بأسرها.
نجح ترامب في الوصول إلى الرئاسة عبر تغريدات شعبوية استطاعت جذب جمهور يقوم على أصولية امريكية تعتقد أن أميركا تقوم وتستمر بسيادة العرق الأبيض وهيمنة الطهرية المسيحية واعتبار الأعراق والإثنيات الأخرى هوامش على التكوين الأمريكي المؤسس، وأن أي تغيير يخالف هذا الوضع يكون بمثابة تدمير وفناء للأمة الأمريكية بأسرها.
مثَّل مجيء ترامب إلى الرئاسة صراعاً ضمنياً داخل الولايات المتحدة بين اتجاهين:
أولهما: اتجاه، يتصدر واجهته السياسية بِيل كلينتون وباراك أوباما وجو بايدن، يدعو إلى تكيف القيم وتعديل معنى الهوية الأمريكية مع التحولات الجذرية الحاصلة التي تنقل المجتمع الأمريكي من مجتمع يهيمن فيه عرق ودين خاصين إلى مجموعة أقليات لا تملك أي منها اليد العليا أو أغلبية الأصوات أو مقومات القوة لتتفرد في إدارة البلاد.
ثانيهما: اتجاه ذي نزعة محافظة ومتضررة من التغير المجتمعي يجهد في استعادة القيم التقليدية في انتظام العلاقات الاجتماعية، والاحتفاظ بأغلبية العرق الأبيض عددياً، وإحياء الليبرالية الكلاسيكية التي تستند إلى رؤى جون لوك وآدم سميث في اعتبار الدولة مجرد شرطي ليلي لا يتدخل في النشاط الاقتصادي واطلاق المبادرة الاقتصادية الفردية إلى أقصى مداها من دون معوقات أو تقييدات رسمية. مقابل رؤية الطرف الآخر الذي يعتبر تدخل الدولة أمراً ضروريا للحد من تزايد الغبن في توزيع الثروة وإدارة الموارد. إنه تنافس قوي بين مبدأ :"دعه يعمل دعه يمر" ليحد من دور الدولة في الحياة الاقتصادية، ومبدأ حتمية تدخل الدولة واعتبار النشاط الاقتصادي من صميم عملها ومجال سلطتها الأساسية لضمان الإنصاف في توزيع الثروات.
الفارق بين الاتجاهين عميق إلى درجة أنه تسبب بتقسيم عمودي للمجتمع الأمريكي: بين ميل ينزع إلى علمنة (Globalize) القيم الامريكية واخراج الهوية الامريكية من خصوصية إثنية مغلقة إلى اعتبارها توافقاً أو تعاقداً على قيم حقوقية مشتركة، وميل آخر إلى جوهرنة الهوية وإرجاعها إلى أصول إثنية ثابتة. بين سياسة الشراكة مع العالم في حل أزماته البيئية والسياسية، وبين سياسة العزلة وسلوك التفرد والهيمنة واستعراض القوة والتفوق. بين اعتبار الهجرة أحد موارد الطاقة البشرية المتجددة في الداخل الأمريكي وبين النزعة إلى هيمنة العرق الواحد الذي لا يتوانى عن التصريح بتفوق هذا العرق بعبارات ممتلئة بالعنصرية والكراهية تجاه الاثنيات والأعراق الأخرى. بين تطلع إلى عالم متحول وبين حنين إلى ماض لم يبق منه إلا آثار في طريقها إلى الاندثار.
وصل ترامب إلى الرئاسة في غفلة من الزمن بإطلاق وعود نجحت في تعبئة الريف الأمريكي الناقم من متغيرات المشهد الأمريكي، وضمنت لترامب التفاف كتلة الرساميل الضخمة التي أقلقها تدخل الدولة المتزايد في النشاط الاقتصادي. هي وعود اعتبرها أكثر بل معظم الخبراء كارثية، لأنها تخرج الولايات المتحدة من طور الريادة والقيادة في إدارة العالم، إلى دولة منتجة للأزمات والصراعات. من دولة شراكة وانفتاح إلى دولة عزلة واستعلاء. من دولة تعددية وتنوع ثقافي وإثني إلى آحادية عرقية. من دولة أكثر تكيفا ومواكبة للتحولات إلى دولة كابحة لعجلة الزمن.
الأخطر في عهد ترامب، هو أن شخصانيته المفرطة وتمحوره الفاقع حول ذاته (Selfcentered) وضعه في مواجهة مع مؤسسات الدولة الأمريكية وأجهزتها، بحيث بات نجاح مهمته الرئاسية متوقفاً على نجاحه في الإنقلاب على الدولة نفسها وتقويضها من الداخل.