المشكلة التي تزيد هذه الأزمة عمقاً، تكمن في الهروب المتعمّد الذي يمارسه بعض النافذين، من الاسباب الحقيقية والمتعددة للأزمة، عبر حصرها فقط بعقدة او عقدتين هنا وهناك.
يكفي التعمّق ولو قليلاً في جوهر مشكلة التأليف، ليتبيّن خطأ ربط تعطيل التأليف فقط، بما سمّيت بالعقدة المسيحية او «أم العقد» بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، او بالعقدة الدرزية رغم احتدام التخاطب بين التيار والحزب التقدمي الاشتراكي. ليس في الإمكان نفي انّ هاتين العقدتين صعبتان، لا بل مستعصيتان، الّا انهما ليستا سوى عقدتين في مسلسل عقد، أكثر صعوبة واستعصاء، ومنها:
• عقدة الانتظار المفتوح للخارج، لعل تطورات ما ينفخها في اتجاه لبنان، وهذا ما يتمسك به بعض النافذين على خط التأليف. الّا انّ المشكلة هنا تتبدى في انّ الخارج الاقليمي متهم بأنه ليس مُحايداً، وانه يجاري طرفاً بعينه يتغطى بمظلته، في مواجهة اطراف اخرى. وانّ الخارج الدولي لا مكان للبنان في سلم أولوياته واهتماماته، ما خلا نصائح تقليدية بالتعجيل بتشكيل الحكومة، الّا انّ نصائحه قد تكون من النوع المكلف على لبنان وقد يدخله في مجهول، كمثل الدعوة الاخيرة للسفير الفرنسي في لبنان الى تشكيل حكومة أكثرية، التي تشكّل الوصفة الملائمة للانقسام السياسي الحاد مع ما يرافق ذلك من تداعيات وسلبيات على كل الواقع اللبناني واستقراره.
• عقدة التحكّم بمصير الحكومة، التي ما زالت محكومة بالاصرار، وتحديداً من قبل التيار الوطني الحر على ان يحظى وحده بالثلث المعطل، عبر حصته كتيار، مُضافاً إليها الحصة الوزارية لرئيس الجمهورية التي تأرجحت بين 3 و4 و5 وزراء، ويقال انها رَست على 4 وزراء.
• عقدة التحكّم بالقرار داخل الحكومة، التي تَأتّت عن سَعي ما زال مستمراً، من قبل بعض الاطراف لإحداث «ثنائية» داخل مجلس الوزراء يزيد تمثيلها عن 15 وزيراً، اي النصف+1، الذي يخوّلها الاستئثار بالقرار وتمرير اي مشروع او صفقة، او اي بنود لاتفاقات معقودة بين اطراف سياسية. وهناك قوى سياسية بدأت تُجاهر علناً بـ«ثنائية» تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، وتستذكر اتفاق «جبران باسيل ونادر الحريري» المعقود ضمن التسوية السياسية التي ما زالت حية بينهما.
وبعض هذه القوى، ومن بينها حلفاء للمستقبل وحلفاء للتيار، بدأت تعبّر عن خشيتها البالغة من هذا الامر، ومن انّ بحث ايّ بند في مجلس الوزراء وأمام هذه الثنائية سيتطلب خوض معركة، ما يعني اننا سنكون في ظلها أمام معارك متتالية في مجلس الوزراء. وهذه الخشية دفعت البعض، على طول الخط الممتد من «حزب الله» الى «أمل» الى «القوات»، الى التقدمي، وصولاً الى «حزب الله» والحلفاء الى إعلان الرفض المُسبق لهذه الثنائية التي إن صارت أمراً واقعاً، يعني مشيت البواخر، وكل الصفقات. وبعض هؤلاء قال صراحة: «لن نسلّمهم البلد، ولن نتركهم يبلغون هذا الهدف مهما كلّف الأمر، ونكون مجانين إن وافقنا على هذه الثنائية».
• عقدة محاولة التوزير من حساب الغير، وهذا هو السبب الاساس الذي يُشعل العقدة المسيحية بين التيار والقوات، والعقدة الدرزية بين التيار والاشتراكي.
فالتيار، ورئيسه جبران باسيل على وجه الخصوص، مُتهم في هذا الجانب من قبل الطرفين، بأنه يريد ان يأخذ تياره كل تمثيل كتلة «لبنان القوي». وامّا تمثيل الحلفاء، وخصوصاً من سمّوا أنفسهم نواب العهد، فلا يريد ان يمثّلهم من حسابه، بل يريد ان يقتنص تمثيلهم من حساب الآخرين وتحديداً من «القوات»، وكذلك من الاشتراكي وخوضه معركة توزير طلال ارسلان.
• عقدة الانتقائية العشوائية، التي تتعارض مع عنوان الوحدة الوطنية التي اسقط على الحكومة الجاري تشكيلها، هذه العقدة ما زالت مستحكمة ومستعصية، خصوصاً انها تفتح الباب لتمثيل قوى معينة، وتقفله امام قوى اخرى. فعلى سبيل المثال، طلال ارسلان لا يملك كتلة نيابية، ومع ذلك يصرّ التيار على توزيره، فيما لا مكان في الحكومة لا لكتلة ميقاتي (4 نواب)، ولا لكتلة الكتائب (3 نواب) بل لم يبحث معها أمر تمثيلها، ولا للقومي (3 نواب) الذي طلب التمثيل ورفض طلبه، ولا لسنّة المعارضة (6 نواب) الذين يصرّون على التمثيل مدعومين من «حزب الله»، فيما يضع الرئيس الحريري «فيتو» في وجههم، غياب المعيار العادل للتوزير.
• عقدة المعيار العشوائي لتحديد حصص القوى السياسية، والتي لم تفك بعد، وثمّة هروب واضح منها، خصوصاً انّ اعتماد هذا المعيار سينفّس الانتفاخات الوهميّة لبعض القوى ويسقط الأسقف التي صعدت اليها لتكبير حجم تمثيلها. ولنفرض انه تمّ الركون الى معيار واحد للتوزير، فسنكون امام نتائج مغايرة لما يطلبه بعض الاطراف، وهذه عيّنة منها:
1 - كتلة لبنان القوي (29 نائباً الذين يتألفون من نواب التيار ونواب العهد)، فإن اعتمدت صيغة وزير لكل 3 نواب، معنى ذلك انّ حصة هذا التكتل ومن ضمنها حصة رئيس الجمهورية، تصبح 9 وزراء، (التيار 18 نائباً... يعني 6 وزراء) وليس 10 او 11 او 12. واما اذا اعتمدت صيغة وزير لكل 4 نواب، فتصبح حصة التكتل 7 وزراء يعني التيار 4 وزراء او 5 فقط. وحصة الرئيس 2 او 3 وزراء.
2 - القوات اللبنانية (15 نائبا)، تحصل على 5 وزراء باعتماد صيغة وزير لكل 3 نواب، و3 وزراء وثلاثة أرباع الوزير يعني 4 وزراء، بصيغة وزير لكل 4 نواب.
3 - كتلة بري (17 نائبا)، تحصل على 5 وزراء وثلاثة أرباع الوزير يعني 6 وزراء، باعتماد صيغة وزير لكل 3 نواب، و4 وزراء بصيغة وزير لكل 4 نواب.
4 - «حزب الله» (13 نائبا)، يحصل على 4 وزراء بصيغة وزير لكل 3 نواب، و3 وزراء بصيغة وزير لكل 4 نواب.
5 - تيار المستقبل (20 نائبا)، يحصل على 6 وزراء وثلاثة أرباع الوزير بصيغة وزير لكل 3 نواب، و4 وزراء زائد الحريري بصيغة وزير لكل 4 نواب.
6 - سنة المعارضة (6 نواب)، بصيغة وزير لكل 3 نواب يحصلان على وزيرين، اما بصيغة وزير لكل 4 نواب فيحصلون على وزير.
7 - تيار المردة (5 نواب)، وكتلة ميقاتي يحصل كل منهما على وزير بصيغتي وزير لكل 3 او 4 نواب. واما حزب الكتائب (3 نواب)، والقومي (3 نواب) فيتمثّل كل منهما بوزير.
هذه النتائج تنسف كل طموحات وما سُمّيت «انتفاخات البعض»، وهذا سبب موجِب لعدم الذهاب الى هذا المعيار. وبالتالي، امام هذه الصورة، لا يبدو انّ ولادة الحكومة ميسّرة. الّا اذا حصل امران متلازمان، الأول مبادرة الرئيس المكلّف الى حزم امره، وإقران ما يكرره دائماً بأنه هو وحده من يشكّل الحكومة بالتشاور مع رئيس الجمهورية بالفعل. بحيث يقدم تشكيلة حكومته ويخرجها مع رئيس الجمهورية وحده، من دون ان يخضع لمزاجية هذا الطرف السياسي او ذاك.
والثاني، مبادرة رئيس الجمهورية الى «خَبط» يده على الطاولة والقول كفى مماطلة وتعطيلاً، ويُلزم قبل كل الآخرين فريقه السياسي بقبول الامر الواقع الذي أفرزته الانتخابات النيابية كما هو، وبالتواضع وخفض سقف مطالبه ووقف حرب الأحجام التي يخوضها في اتجاهات سياسية متعددة، وخصوصاً داخل البيت المسيحي.
الّا انّ المشكلة هنا، تكمن في انّ الحريري ليس بصَدد المبادرة، وكذلك رئيس الجمهورية لأنه يتبنّى مطالب فريقه السياسي جملة وتفصيلاً.