إذا افترضنا لوهلة أنّ «الصفقة» العتيدة اكتملت، مع أنّ صعوبات كثيرة لا تزال تعترضها، بتنا أمام لوحة رهيبة للمشرق العربيّ. احتمال كهذا ذو حجم يفوق كثيراً حجم رؤيتنا له.
فالاستئصال السياسيّ لقضيّتين عادلتين في سوريّة وفلسطين لا تعوّض عنه جائزة ترضية، ولو كانت دسمة، هي سحب إيران من المنطقة. وغالب الظنّ أن يلدَ الجور ونقص العدالة المرعيّان كونيّاً موجة جديدة من الإرهاب قد تستأنف الموجةَ الداعشيّة بأسماء وعناوين أخرى.
تطوّرٌ كهذا قد يجعل إبعاد إيران، بوصفه النتيجة الإيجابيّة الوحيدة، قابلاً للتراجع عنه بحجّة الحاجة إليها في مكافحة إرهاب لا ينضب. الرسميّون الإيرانيّون حين يسوّقون أنفسهم لا يفوتهم التذكير بدورهم في هذه المكافحة التي ترفع أسعار المكافحين. وهم أيضاً، وعلى لسان ولايتي نفسه، يؤكّدون أنّ وجودهم في سوريّة لا علاقة له بتاتاً بإسرائيل. «هآرتز» الإسرائيليّة تعقّب على زيارتي ولايتي ونتانياهو إلى موسكو، بأنّ روسيا «تخطّط فعلاً للعمل على سحب القوّات الإيرانيّة في مقابل وعد إسرائيليّ بعدم إيذاء الأسد أو نظامه».
يقابل ذلك، وعلى مدى ورش الإعمار الموعودة، اختلاط غير مسبوق بين رجال أعمالنا ودماء مواطنيهم. هذه الطبقة التي لم تكن نافعة إلاّ نادراً في تاريخنا الحديث، ستجد نفسها وقد غطست في مزيد من الوحل والدجل الذي ينزّه الإعمار (فهو لوجه الله طبعاً!) عن السياسة. وللتذكير فقط: لا بدّ من تسبيق أيّ إعادة إعمار برفع العقوبات عن بشّار الأسد، ومعظم العقوبات أتى ردّاً على ضرباته الكيماويّة. أمّا «ازدهار المنطقة» فيمرّ حكماً، والحال هذه، في تطبيع سياسات الاستيطان الإسرائيليّ والتحويل الديموغرافيّ والمذهبيّ السوريّ. أي أنّ السرقة ستغدو «أمامنا» بوصفها عقيدة المنطقة وعقيدة المتعاطين معها في العالم، بينما سيصبح الكيماويّ والاستيطان «وراءنا».
ولسوف يكون أحد أهمّ التفاصيل في هذه اللوحة، وهو ما لن يفاجئ إلاّ الممانعين، أنّ إسرائيل ستضمن حكم الأسد في طوره الثاني، بينما تتولّى، باليد الأخرى، إكمال الاجتثاث السياسيّ للقضيّة الفلسطينيّة.
وهذا ما يُفترض به أن يخلط أفكاراً ومفاهيم كثيرة، في عدادها أنّ بشّار الثاني، الروسيّ، سيطلّق المزاعم القوميّة والنضاليّة التي عرفناها مع بشّار الأوّل، الإيرانيّ.
ضربات زلزاليّة تنتظرنا إذاً، في مصائر القضايا كما في الأحلاف الاستراتيجيّة، وفي الاقتصاد كما في الإرهاب. أمّا الأفكار فستصاب هي الأخرى بالضربات نفسها، إلاّ أنّ تأثّرها سيكون أبطأ من تأثّر المستويات الأخرى.
فهنا، في هذا المجال الأخير، تسيطر علينا ثقافة سياسيّة تطيل الألسنة أكثر ممّا تفتح الأعين. والتجارب تدلّنا على أنّ ألسنتنا كانت، مع كلّ هزيمة، تكتسب سنتيمتراً إضافيّاً بينما تنكمش حدقات أعيننا مليمتراً. ولأنّ الهزائم كثرت، صرنا مجرّد ألسنة تهجو: نكتشف، مرّة بعد مرّة كم أنّ العدوّ عدوّ وكم أنّ الشرّير شرّير. نقتطف من كلّ جديد تطرحه العلوم السياسيّة والاجتماعيّة في الغرب ما يمكّن ألسنتنا. أمّا الرؤية فيعانقها العمى.
لقد انتهت دورة غير عاديّة في تاريخنا الحديث، دورةٌ من الثورات والثورات المضادّة، تحاول أن تتوّجها صفقات لعينة.
ونحن لا نضيف جديداً إذا وجّهنا ألسنتنا نحو الملاعين، وهم، بالطبع، يستحقّون الشتم والهجاء. لكنّنا قد نضيف جديداً إذا سألنا: لماذا يحصل ما يحصل؟ لماذا آلت الأمور إلى ما آلت إليه؟ وهل كان ممكناً لأهل الصفقات أن يفكّروا في ما يفكّرون فيه لو استطاع السوريّون والفلسطينيّون أن ينتجوا هيئات سياسيّة واحدة ومُجمعاً عليها تمثّل الأكثريّتين في الشعبين؟
أليس من الفجوات الضخمة في جدران الوحدات الوطنيّة دخلت الاحتلالات والتدخّلات الجائرة، قبل أن تدخل الصفقات؟