"مونديال" كرة القدم في روسيا، المختتم أمس بفوز فرنسا بكأس العالم، كان أيضاً مناسبة لتلمّس أوضاع العلاقات الدولية في عالم اليوم، فالأزمة ما زالت على حالها بين روسيا والمجموعة الغربية، منذ ضم موسكو لشبه جزيرة القرم وتدخلها الداعم للانفصاليين في شرق اوكرانيا، والتدخل الروسي الى جانب النظام في سوريا كان ايضاً من العناوين الخلافية مع المجموعة الغربية، وقسم اساسي من المجموعة العربية، ومع هذا، وفي الموازاة، ليس ثمة ما يذكّر باشتداد الحرب الباردة، يوم قاطع الغربيون مثلاً اولمبياد موسكو عام 1980.
صحيح أن لحظات توتر خطابية خطيرة تخللت العلاقة بين روسيا والمجموعة الغربية في الفترة الاخيرة، وان مطالبات خرجت هنا وهناك ضد استمرار روسيا في استقبال المونديال، خاصة وأن استقبالها دورة الالعاب الاولمبية الشتوية في سوتشي 2014 كان المدخل لاطلاق العنان، روسياً، لنزعة الإحياء الامبراطورية أكثر من ذي قبل، ثم عدم قبولها بخسارة حليفها في أوكرانيا "بروح رياضية" وتدخّلها لفكفكة جارتها المتداخلة معها ثقافياً وحضارياً وفي التاريخين القيصري والسوفياتي.
يبدو المشهد مغايراً اليوم: اهتمت روسيا بتحسين صورتها السلبية الى حد كبير في السنوات الماضية، ويأتي هذا عشية قمة هلسنكي بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب التي تنعقد اليوم، وتستبق بكثير من الانتظارات والتحليلات التي تميل بطبيعة الحال الى المبالغة بصدد النتائج المتوخاة من هذه القمة، من دون ان يقلل هذا في نفس الوقت من أهمية الحدث، وأهميته كمؤشر للفترة المقبلة على الصعيد العالمي، ويفترض ايضاً على صعيد الاوضاع في الشرق الاوسط.
لا يعني هذا ان تبديلاً جذرياً ينتظر في مآل الاوضاع في سوريا، بعد ان عاد النظام فوصل حتى درعا، بالمساعدة التدخلية الروسية، ولا ان قطار التسوية العربية ـ الاسرائيلية سوف يقلع مجدداً، فيما اسرائيل نسفت كل مقومات لهذه التسوية، وأطلقت واشنطن رصاصة الرحمة عليها رمزياً وفعلياً في آن بتجاوزها كل قانون دولي في ما عنى مسألة القدس. إنما قمة هلسنكي سيخرج منها مؤشر. مؤشر حول اتجاه العالم نحو الانفراج او التوتر في السنوات المقبلة. وروسيا في هذا الصدد، بين نزعتين. نزعة الإحياء الامبراطوري من ناحية، ونزعة تحسين صورتها المتضررة كثيراً بفعل تراجع المنسوب الديموقراطي داخلها وتزايد المنسوب التدخلي خارجها، من أوكرانيا حتى سوريا، ناهيك عن الانتخابات الرئاسية الاميركية نفسها التي أتت بترامب.
هل يسع روسيا التوفيق، او البحث عن توفيق، بين نزعتها الاحيائية للمجد الامبراطوري وبين تحسين صورتها الاجمالية على الصعيد العالمي؟ بشيء من السذاجة يمكننا القول ان المونديال، واسلوب التفاعل الروسي مع هذا الحدث عبّر عن هذه الرغبة في تحسين الصورة، بعد ان تضررت، في مقابل النزعة الإحيائية للامبراطورية، المعبّر عنها أكثر وقت أولمبياد سوتشي. وإنها لمفارقة رهيبة ان تكون تجربتنا كعرب مع التدخل الحربي الروسي في سوريا مؤطرة بين هذين الحدثين الرياضيين.
من العبث الاسترسال في تأويل نتائج لقاء هلسنكي، او الغوص في الترجيحات، عشية انعقادها. لا بد من الانتظار اياماً مزيدة بعد القمة لالتقاط مناخها. يبقى ان للعرب مع روسيا مجالاً آخر مختلفاً عن الاشكال الروسي ـ الاميركي والروسي ـ الغربي. ويفترض للمجال الروسي ـ العربي ان لا يختزل في نفس الوقت ببعد دون آخر. لا يلغي هذا ان التدخل الروسي في سوريا هو محور اي نقاش روسي ـ عربي حالياً، والى سنوات قادمة.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا بعد ان حقق هذا التدخل مراده، بالضد من حركة الشعوب العربية، بتمكين النظام في سوريا، فكيف تستعد روسيا لمرحلة ما بعد انسحابها من سوريا، وما هو اساساً شكل النظام اذا انسحبت روسيا؟، ام ان روسيا ستبقى موجودة ومتدخلة بسوريا الى امد غير منظور؟، وكل اتجاه من هذا له تبعات مغايرة لجهة العلاقة، في المسألة السورية، وعلى ارض سوريا، بين روسيا وايران.