الإبتسامات التي يحرص على توزيعها وتوثيقها في ذاكرة هاتفه المحمول، لا تعني أبداً أنّ الرجلَ في أحسن حالاته، وأنّ ما ينتظره من تحدّيات، وحصار شعبي وسياسي فرضه تراجع حضوره، ليس بالمسألة العابرة أبداً في مساره ومستقبله.
مسارٌ «انقلابي» بانت أولى إشاراته يوم وقف «نجل الشهيد» على منبر 14 شباط من العام 2015 في ذكراه العاشرة، يضع اللبنة الأولى من مسيرة «تعليق الخصومة» مع «حزب الله».
يومها كان جبران باسيل ضيفاً استثنائياً تسنّى له، كما الحضور «الأزرق» الاستماع إلى «الزعيم العائد» يعدد «ثوابت» ربط النزاع في خصوص السلاح، ومشاركة «الحزب» في القتال في سوريا، قرار الحرب والسلم، الأوضاع في المنطقة عموماً، والتمسّك بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وأخيراً ورغم كل ما سبق: ضرورة الحوار لتهدئة الشارع وتنفيس الإحتقان.
فيما الخطوة الثانية كانت التسليم برئيس من «رحم» قوى الثامن من آذار، ليبدأ مسلسل تنازلات، كان يعرف الحريري جيداً أين يبدأ، لكنه لا يدرك أبداً كيف ينتهي.
قدّم الرجل «قربانه» على مذبح الرئاسة تحت عنوان حماية «الطائف» من محاولات «كسره» لمصلحة معادلة جديدة قد تفرضها «نار المنطقة». ولهذا كان الاعتقاد في «الدائرة الحريرية» كما يقول أهلُها، أنّ التضحية بموقع رئاسة الجمهورية هي فقط من باب حماية «وثيقة الوفاق الوطني».
وتنتهي مرحلة «التقديمات» المجانية هنا. وإذ بقانون الانتخابات الذي حار ودار ورسا على النظام النسبي وفق الدوائر المتوسطة، يكذّب الغطّاسين ممَّن اعتقدوا أنّ عاصفة التغيير ستقف على مدخل قصر بعبدا!
مرة جديدة يدفع زعيم تيار «المستقبل» من «كيسه المنفوخ» بفعل النظام الأكثري، ويتحوّل من رئيس كتلة تضمّ 35 نائباً فيها من الصقور على قدر الحمائم، إلى رئيس كتلة من 23 نائباً معظمهم من «حديثي الولادة» السياسية. الأنكى من ذلك، وقوف عشرة نواب سنّة «على بابه» قادرين في كل لحظة على مناكفته ومحاججته في شرعية زعامته لأبناء طائفته.
ليس تفصيلاً بسيطاً أن يتقلّص مربّع «الصقور الزرقاء» الى حدوده الدنيا لمصلحة الشباب أو «الورثة» السياسية. صار الرئيس فؤاد السنيورة من «غير المرغوب بهم»، فيما «نفوذ» الوزير نهاد المشنوق صار «حِملاً ثقيلاً» يصعب على كتفَي الحريري تحمّله، أما النائب السابق خالد ضاهر فمشاغبته وميله إلى «التمرّد» غير قابلين للاستيعاب، ومعين المرعبي استنفد كل «تهديداته» بالاستقالة من المواقع السياسية... واضطر الى فعلها، ملتزماً الصمت حيال أكثر الملفات إثارةً للجدل، ملف النزوح السوري، وهو لا يزال وزير دولة لشؤون النازحين في حكومة تصريف الأعمال.
اختار الحريري التحكّمَ في منسوب «وجع رأسه»، فأحاط طاولة كتلة «المستقبل» بوجوه لا تعرف طريقها بعد الى المشاكسة أو اللعب خارج ملعب «زعيمها».
ولكنّ لهذا الخيار أكلافَه الثمينة التي يستعدّ الحريري لتكبّدها. مَن يجالس الرجل في هذه الأيام، يعرف جيداً مدى الضغط الذي يشكو منه، ممَّن هم مصنّفون في خانة «الحلفاء»، وتحديداً من جانب قيادة «التيار الوطني الحر»، حيث تفيد المعلومات أنّ الرجل طلب من رئيس الجمهورية أن يُبقي التواصل معه مباشراً، بلا طرف ثالث، ويُقصد به وزير الخارجية جبران باسيل.
يتّكل الحريري راهناً على واقع رقمه «الأول» في الشارع السنّي وحاجة «حزب الله» إلى وجوده في الرئاسة الثالثة من باب تكريس الاستقرار النسبي السنّي- الشيعي، ولو أنّ الضاحية الجنوبية نفضت يديها أكثر من مرة من التفاهمات غير المعلنة بين باسيل ونادر الحريري، ومنها التسليم برئاسة زعيم تيار «المستقبل» الحكومة خلال العهد العوني.
لهذا يمارس «الغنج والدلال» السياسيَّين، حسب خصومه، على أمل النجاح في صدّ هجمات مَن يتقصّد التصويب على مرماه للخروج بأكبر قدر من الأهداف. ومنها توزير المعارضة السنّية.
فمَن يرصد سلوك «حزب الله» خلال السنوات الأخيرة، يدرك جدّياً مدى الأهمية التي يوليها لحلفائه السنّة. لا بل بدا جلياً أنّ الدور الأساس للنظام النسبي هو تمكين هؤلاء من عبور معمودية الصناديق بسلام والإثبات بالوجه الانتخابي، شرعيّتهم الشعبية.
وما فعله في قانون الانتخابات، قد ينحسب على تركيبة الحكومة العتيدة من باب حماية حلفائه وتعزيز حضورهم، حيث يحاول النواب السنّة ممَّن هم خارج «تيار المستقبل» تأطيرَ «كتلتهم» رداً على حجّة الحريري لعدم توزير أحدهم، في أنهم موزّعون ولا يمثلون كتلةً واحدة... ولو أنّ مسار فكفكة العقد يشي بوضوح إلى أنّ العقدة السنّية مؤجّلة الى ما بعد العقدتين المسيحية (الأكثر تعقيداً) والدرزية.
وإلى أن تحين «لحظةُ الحقيقة» للولادة الحكوميّة، يتصرّف الحريري على أنّ السماح بفتح كوّة في جداره الوزاري لمصلحة خصومه السنّة، هو خطّ أحمر لن يقبل بتجاوزه، اعتقاداً منه أنّ هذه الخطوة هي بمثابة نقلة خطيرة، قد يأتي من بعدها مَن يقول له «كشّ ملك».
ولكن في مقلب هؤلاء النواب، يؤكد أحدهم أنّه «من الخطأ الحكم على نيّات النواب المستقلّين مسبقاً، لأنّهم يريدون التعاون مع الحريري لا مخاصمته على طاولة مجلس الوزراء». ويشير إلى أنّ «ما يصله من داخل المملكة السعودية لا يشي أبداً في أنها وراء اعتراض رئيس الحكومة المكلّف لا بل يؤكّد حيادَها في هذا الملف، وإنما الأرجح اعتباراته الذاتية التي تملي عليه الوقوف ضدّ مشروع توزير نائب سنّي مستقل».
وينصح الحريري قائلاً إنّ «الحكم كرة نار، ونحن نعرض عليه مساندته في حملها. فلا داعي لمضاعفة الخصوم».