في الأسابيع الأخيرة، تواترت الرسائل الأميركية إلى لبنان، ولا سيما منها ما يتعلق بالملف الحكومي. وتبدو العقبات التي يسعى الرئيس سعد الحريري إلى تذليلها وكأنها ذات طابع محلّي، وتتعلق بالنزاع على الحصص والحقائب بين القوى المتنازعة سياسياً وطائفياً ومذهبياً، فيما هي أساساً عقبات ذات طابع إقليمي ودولي.
ويقول العارفون: العقبات الحقيقية أمام التأليف تتمحور حول السؤال الآتي: لمَن ستكون السيطرة في الحكومة العتيدة، على مدى أربع سنوات ستشهد استحقاقات محلية حسّاسة جداً وتطورات إقليمية يمكن وصفها بالمصيرية؟
وفي عبارة أكثر وضوحاً، العقدة الأساسية هي: كيف سيتمكن الحريري من تأليف حكومةٍ لا يسيطر عليها «حزب الله»، فيما هو وحلفاؤه باتوا اليوم الغالبية في المجلس النيابي، وفي استطاعتهم عرقلة التأليف إلى أجَل غير مسمّى، بل نسف عملية التكليف من أساسها، إذا استخدموا أوراقهم كلها، وهي متعدّدة ومعروفة وتمّت تجربتها في محطات سابقة.
ولذلك، يراهن الحريري على الوقت «حَلّال المشاكل»، لعلّ الفرج يأتي عندما ييأس الجميع ويستسلمون للأمر الواقع وتوازنات القوى. لكنه، في أيّ حال، ليس في وارد ارتكاب خطأ بتأليف حكومة يكون فيها القرار لـ»حزب الله» وحلفائه، سواءٌ السنّة أو المسيحيين (خارج عون و»التيار الوطني الحرّ») أو الدروز. فلا السعوديون يستسيغون ذلك، ولا الأميركيون يسمحون به.
وفي هذا السياق، يتحدث المطّلعون على مجريات الحراك الديبلوماسي الأميركي في بيروت عن تحذيرات واضحة وجّهتها واشنطن عبر سفيرتها إليزابيت ريتشارد إلى سائر المعنيين بعملية تأليف الحكومة، ومنهم الحريري، ومفادها أنّ واشنطن تريد أن يتمّ بأسرع وقت تشكيل حكومة تتولّى إدارة شؤون لبنان في هذه المرحلة، وهي مقتنعة بأنّ ذلك سيحصل، لكنها لن تتهاون إطلاقاً في حال أصبح قرار الحكومة في يد «حزب الله».
هذه الرسالة تبلَّغها المعنيون الذين التقوا السفيرة ريتشارد أخيراً، مقرونة بالتحذير: إذا حصل «الحزب» على غالبية تسمح له بالتحكم بالقرار في الحكومة العتيدة، فسيكون هناك حديث آخر. وهو سيدفع الولايات المتحدة إلى أن تتعاطى مع لبنان الدولة كما تتعاطى اليوم مع «الحزب» الذي تعتبره منظمة إرهابية تقوم بمتابعة عمليات تمويلها وتجفيفها.
وفي الموازاة، تؤكد السفيرة الأميركية التزامَ واشنطن القوي باستقرار لبنان ودعم قدراته ليتمكّن من مواجهة المصاعب السياسية والاقتصادية والأمنية. فالاستقرار اللبناني حيوي ليتمكّن لبنان من الصمود في مواجهة الاستحقاقات الإقليمية الآتية.
ولذلك، لم تشمل العقوبات المالية على «حزب الله» القطاع المصرفي اللبناني أو المؤسسات المالية الرسمية، كما أنّ واشنطن تدعم المؤسسات الشرعية بقوة، ولا سيما منها الجيش اللبناني الذي توليه الولايات المتحدة أهمّية كبيرة وتعوّل كثيراً على دوره في المرحلة المقبلة.
ولذلك، يتواصل دعم واشنطن للجيش بمواكبة حثيثة من السفارة الأميركية. وهنا يتوقف المتابعون عند الاهتمام الأميركي اللافت بقائد الجيش العماد جوزف عون، والذي أظهرته زيارته الأخيرة للعاصمة الأميركية. فقد حظي العماد عون باستقبال حافل، وعقدت لقاءات بينه وبين المسؤولين المعنيين بالملفات العسكرية، على المستوى الثاني، وهو أمر تحصره واشنطن عادةً بقادة الجيوش في الدول الكبرى الحليفة لها، فيما تجرى اللقاءات على المستوى الثالث مع قادة الجيوش من دول أخرى، ولا سيما منه دول العالم الثالث.
وكانت العلاقات العسكرية بين لبنان والولايات المتحدة شهدت نموّاً مطرداً على مدى العامين الأخيرين، وبلغت ذروتها في الدعم الذي قدمه الأميركيون للجيش لتحرير جرود لبنان الشرقية من التنظيمات الإرهابية، وفي الزيارات المتتالية لمسؤولين عسكريين أميركيين والاهتمام بالمطارات العسكرية، ولا سيما منها مطار رياق.
وتقرأ بعض الأوساط الديبلوماسية مؤشرَ التشدّد ضد «حزب الله» والاهتمامَ المتزايد بالجيش على أنه عنوان النهج الأميركي الذي سيعتمده ترامب في الشرق الأوسط ولبنان في خضم معركته المفتوحة مع إيران، والتي يُتوقع أن ترتفع وتيرتها في المرحلة المقبلة، وستشمل إصدار قوانين جديدة تستهدف «الحزب» وتنصّ على نزع سلاحه مراعاة للقرارات الدولية، ولا سيما منها القرار 1701.
ولهذه الغاية، تتوقف هذه الأوساط عند المتغيّرات التي شملت بعض المواقع في الإدارة، ومنها تسلُّم مايك بومبيو وزارة الخارجية، واحتمال خروج بعض الوزراء المصنّفين في خانة الأقل تشدّداً ضد إيران. وتتوقع الأوساط خطوات جديدة في هذا الاتّجاه، بحيث يصبح القرار الغالب في واشنطن متشدّداً، بلا تردّد، ضد النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط و«حزب الله».
وثمّة توقعات بأن يطلب الأميركيون من لبنان الرسمي، بعد تأليف ّالحكومة، أن يقرّ جدّياً استراتيجية دفاعية يجري فيها الحسم في شكل واضح، فيكون الجيش هو المخوّل وحده أن يحمل السلاح، وأن يكون للدولة قرارها السياسي والعسكري غير المرتبط بـ«حزب الله» أو المرتهن له، وإلّا فإنّ العقوبات التي تشمل اليوم «حزب الله» ستشمل لبنان الرسمي أيضاً.