في المرة الأولى، غلّف الرجل بيان كتلة «المستقبل» في 26 حزيران الماضي بكثير من التعابير المنمّقة والمحاكة بدقة، لتخلص إلى التأكيد أنّ «مهمة تأليف الحكومة من المسؤوليات الدستورية المناطة حصراً بالرئيس المكلف»، فيما اضطر في المرة الثانية إلى الاستعانة بنادي رؤساء الحكومات السابقين، على «علّات» خلافاته مع معظمهم، بغية رفع سدّ منيع أمام «الاجتياح الممنهج» الذي يتعرّض له دوره الدستوري، كما يحاول الإيحاء.
الرجل الخارج من تحت مقصلة الانتخابات، محاصراً شعبياً ونيابياً وحتى إقليمياً، بات يحسب ألف حساب قبل الإقدام على أيِّ خطوة. إنّ مقارنة بسيطة لأداء الرجل منذ وضع يده بيد العماد ميشال عون، ومن خلفه جبران باسيل، تظهر بوضوح أنّ الجالس راهناً في «بيت الوسط» غير ذلك الذي قاد سلسلة تنازلات اضطر الى تقديمها لكي يعود إلى السراي الحكومي الكبير.
وما سرى على حكومته الأولى في «العهد العوني» لن ينسحب بالضرورة على الثانية. للأولى اعتباراتُها الموضعيّة، سواءٌ لجهة عمرها، دورها أو حتى ظروفها، أما في الثانية فالهامش أكبر، ومسؤوليتها أكبر، ومساحة الغنج والدلال باتت أوسع.
كثيرة هي العقد التي تعرقل ولادة حكومته العتيدة، لكنّ الأزمة ففي نظره واحدة: «إتفاق الطائف» في خطر! يتصرف زعيم تيار «المستقبل» وكأنّ تهديداً يأتيه من جهة الأقربين، قبل الأبعدين، قد ينسف «آخر إمتيازاته»، وهي الصلاحيات التي منحتها «وثيقة الوفاق الوطني» لرئيس الحكومة، على حساب ما كان لرئيس الجمهورية.
يقرع الرجل جرس الإنذار، لينادي أبناء طائفته للوقوف جانبه دفاعاً عن مواقع «أهل السنة». يعرف أنّ النص يسانده ويمنحه قوة دعم، لكنّ الممارسة، المدعومة بموازين قوى محلية مختلّة لغير مصلحته، تزيد مخاوفه كما يؤكد بعض المطّلعين على مسار التأليف، من احتمال تكريس عرف قد يصير مع الوقت ومع تطوّر الظروف، ورقة مكتوبة.
لطالما حمّل «الحريريون»، ومَن يدورون في فلكهم السياسي، الثنائي الشيعي، وتحديداً «حزب الله» المسؤولية عن محاولات الانقضاض على «الطائف» لمصلحة توازن دستوري جديد قد تقوده «الانتصارات» التي يحققها «حزب الله» في الخارج أو في الداخل.
لكنها المرة الأولى التي توجّه فيها سهام «بيت الوسط» ضدّ حليف «التفاهم الرئاسي» ومندرجاته السياسية، أي الرئيس ميشال عون ومعه باسيل، اعتراضاً على المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة المكلف.
للوهلة الأولى، قد يسود الاعتقاد أنّ المقصود هو «بعبدا»، سواءٌ لجهة رئيس الجمهورية بفعل إصراره على التحكّم بموقع نيابة رئاسة الحكومة كعرف يعود له وحده تسمية شاغله، أو لجهة «رئيس الظل»، أي وزير الخارجية بفعل الدور المبالغ فيه الذي فرضه بحكم الهامش الذي يمنحه إياه عون.
ولكن وفق المعنيين، فإنّ اعتراضَ «بيت الوسط» يتجاوز هاتين المسألتين، إلى ما هو أكثر إلحاحاً. تحت عنوان التمثيل الوزاري النسبي الذي يعكس نتائج الانتخابات النيابية، يرفع «التيار الوطني الحر» سقف مطالبه، التي تضاف إليها مطالب رئيس الجمهورية كحصة وزارية، لتصل الى حدود 11 وزيراً، ما يعني بلغة التوازنات الحكومية، «ثلثاً معطّلاً» يريده العهد في جعبته، من دون أيِّ حليف أو صديق.
عملياً، يدرك الجميع أنّ الحكومة المنتظرة ستكون ذات أدوار دسمة ومصيرية، ولهذا الاشتباك حول الحصص، يخفي نزاعات سياسية، كل وفق اعتباراته وأجندة عمله المستقبلية. منها المعركة الرئاسية التي فُتحت باكراً، ما دفع برئيس «التيار الوطني الحر» الى شنّ حملة استباقية تهدف الى تحجيم الحضور «القواتي» في الحكومة إذا لم ينجح في إخراج معراب من «الجنّة» الوزارية، ومنها الكباش الحاصل على الثلث المعطل الذي سيكون بمثابة ورقة ضغط أو ورقة قوة يمكن التلويح بها عند المفترقات الكبرى.
لهذا يبدو الحريري متوجّساً من محاولات تكريس اختراق يصبح مع الوقت عرفاً يصير من السهل نقله إلى الدستور. وما يزيد من مخاوفه، كما يقول المعنيّون، أداء باسيل الذي يعرف جيداً أنّها فرصته الذهبية ليفرض في الممارسة ما عجز عن تكريسه بالنص لناحية تحسين موقع رئاسة الجمهورية في معادلة الحكم.
في المقابل، «يقرّش» فريق العهد المقوّيات التي قرّر الحريري ضخّها في شرايين الحصّة «القواتية»، على أنّها رسالة سعودية موجّهة مباشرة ضدّ بعبدا، ولهذا فإنّ الخلاف حول الحصص يخفي كباشاً سياسياً قاسياً، ومرشحاً لأن يزيد إذا ما نجحت الرياض في إعادة لملمة «أشلاء» 14 آذار وإحيائها مرة جديدة، لتكون معراب رأس حربتها.
ومن هذا المنظار، يؤكد المعنيّون أنّ المماطلة في مشاورات التأليف، ليست إلّا من باب تحسين المواقع، خصوصاً من جهة الرئيس المكلف المقتنع بأنّه قدّم تنازلات تفوق قدرته على المنح. واذا ما كانت الرياض على هذا الخط، فليس بسبب رهانات على متغيّرات اقليمية، وانما خشية من مزيد من التراجع في حضور حلفائها على الساحة اللبنانية.
لا بل أكثر من ذلك، فالرجل يخوض «معاركه» باللحم الحيّ بعدما أخرج من دائرته صقور «الحريرية السياسية»، كالرئيس فؤاد السنيورة والوزير نهاد المشنوق، فيما مزيل ألغام العلاقة مع باسيل، أي نادر الحريري، أحيل الى «التقاعد المبكر».