من الواضح انّ تأليف الحكومة دخل في مرحلة عضّ الأصابع ومَن يقول «آخ» أولاً، وذلك في ظل تمسّك «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» بوجهة نظرهما مقابل تمسّك الوزير جبران باسيل بوجهة نظره، علماً أنّ العقدتين إفتعلهما باسيل.
والمواقف التي أطلقها رئيس الحزب الإشتراكي وليد جنبلاط من «بيت الوسط» تؤكد المؤكد وهو أنه ليس في وارد التراجع عن تمسّكه بالمقاعد الدرزية الثلاثة، كاشفاً عن كلام معبِّر دار بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون في زيارته الأخيرة للقصر الجمهوري: «الرئيس عون طلب إمكانية تغيير الموازين في ما يتعلق بالحصة الدرزية، هذا القانون السيّئ جعلني أتكلم درزياً، وقلت للرئيس عون في الماضي كان يُمكنني القيام بتسويات، أما الآن فلا».
وهذه الجملة الجنبلاطية المفتاح معبّرة جداً وتختصر وحدها جملة معانٍ: لا تنازل، لا تسوية، وما كان يصحّ في الماضي لم يعد يصحّ اليوم. والمقصود على هذا المستوى ثلاثة اعتبارات أساسية:
ـ الاعتبار الأول، يرتبط بالمرحلة الانتقالية للزعامة الدرزية من الزعيم وليد إلى نجله النائب تيمور حيث التهاون فيها غير مسموح.
ـ الاعتبارالثاني، يقول في وضوح إنّ التسوية الدرزية مدخلها المختارة لا بعبدا، وأيّ تسوية لا تتمّ بالفرض والقوة وتحصل من طريقه لا من طريق غيره.
ـ الاعتبار الثالث، كناية عن رسالة واضحة المعالم مفادها أنّ ما يصحّ انتخابياً كنتيجة للديموقراطية لا يصحّ وزارياً وحكومياً، خصوصاً في ظلّ شعورٍ يتملّك جنبلاط بأنّ هناك نيّة وتصميماً واضحين لدى باسيل للدخول إلى البيت الدرزي لقلب المعادلات، الأمر الذي لن يمرّ في نظر «الإشتراكي».
فعلى خط المختارة الأمور مقفلة، فإما الحصة الدرزية كاملة في الحكومة وإما لا مشاركة، ومعلوم أنّ عدم مشاركة «الإشتراكي» يعني أنّ الحكومة تفتقد إلى التمثيل الدرزي، ويعني وضع الدروز في مواجهة الحكومة، فضلاً عن أنّ الرئيس سعد الحريري لا يشكل حكومته من دون جنبلاط، وللتذكير أنّ أحداً لا يقف مع باسيل في موقفه من التمثيل الدرزي حتى «حزب الله».
وعلى هذا الخط هناك في نهاية المطاف مَن سينكسر، وإذا كان يفترض تلطيف هذا المصطلح، فإنّ من الأنسب القول مثلاً «إنّ هناك مَن سيتراجع»، لأن لا تسوية بين جنبلاط وباسيل على طريقة «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»، ومَن سيتراجع هو باسيل، لأنّ جنبلاط يستطيع الانتظار إلى ما شاء الله، ولكنّ السؤال هل يستطيع باسيل الانتظار طويلاً؟ وقد يستطيع، إنما في حال واحدة وهي أنّ نجاح العهد من آخر همومه وأولويّاته، فيما لا يمكن أن يكون كذلك.
وجنبلاط في موقع قوة اليوم بسبب تفهّم كل المكوّنات السياسية لموقفه مقابل عدم تفهّمها لموقف باسيل، وبالتالي لن تمارس عليه الضغوط، فضلاً عن أنه لا يخضع لأيِّ ضغوط تتصل بحديقته الخلفية، ولذلك فإنّ جنبلاط المناور والبراغماتي وطنياً وسياسياً يتصرف بتشدّد تام ومطلق درزياً، وهذا أمر طبيعي، حيث يرفع لاءاته فوراً: لا مساومة، لا تنازل، لا تراجع.
وأما على خط «القوات اللبنانية» فيرفع باسيل في وجهها ثلاث لاءات: لا، لأن تتمثل وفق «تفاهم معراب» الذي يحمل توقيعه شخصياً؛ لا، لأن تتمثل وفق نتائج الانتخابات فيكون حجمها النصف تماماً، أي خمسة وزراء مقابل العشرة التي يسعى إليها؛ لا، لأن تحصل على حقيبة سيادية أو نيابة رئاسة الحكومة.
فبعد كل ما تقدم كيف يمكن الوصول إلى نتيجة في المفاوضات التي يفترض أن تنطلق قريباً؟ ولكن بلا شك أنّ في العقدة المسيحية إمكانية تدوير الزوايا ممكنة ومتاحة، فلن يخرج أيُّ طرف منها مكسوراً على طريقة العقدة الدرزية، حيث إن المخارج واسعة ويستطيع كل طرف أمام جمهوره والرأي العام أن يثبت خروجه منتصراً، علماً ان «القوات اللبنانية» لا تريد تسجيل الانتصارات ولا تعمل وفق هذا الأسلوب، فيما كل ما تريده هو أن تحصل على تمثيلها الوزاري الفعلي الذي عبّرت عنه صناديق الاقتراع، وإذا كان حجم «القوات» الوزاري في الحكومة الحالية قد قيس على أساس «تفاهم معراب» وشراكتها في التسوية، فإنها ما زالت في المكان نفسه إضافة إلى تشكيلها عامل توازن ضروري بالنسبة إلى المجتمع الدولي الذي ينظر إليها من زاويتين: زاوية سيادية وأخرى إصلاحية تستدعي وجود «القوات» لمواكبة تنفيذ المشاريع التي أُقرّت في مؤتمر «سيدر1».
وحيال كل هذا المشهد يقف الرئيس المكلف أمام لاءاته الضمنية: لا لتأليف الحكومة من دون أخذ وجهة نظر جنبلاط في الاعتبار؛ لا لتأليف الحكومة من دون أخذ وجهة نظرجعجع في الاعتبار؛ لا لتأليف حكومة تفتقد إلى التوازن الذي يؤمّنه جعجع وجنبلاط؛ لا لتأليف حكومة لا تشكِّل ارتياحاً عربياً وغربياً؛ لا لتأليف حكومة غير مقتنع بتوازناتها وقدرتها على مواجهة التحدّيات المطلوبة.
وما يُسقطه باسيل من حساباته أنه بأدائه لم يربح ثقة المجتمعين العربي والدولي، ولم يوطِّد ثقة «حزب الله» به، حيث إنّ العلاقة بينهما لم تعد كما كانت عليه سابقاً، بمعزل عن كل ما قيل ويقال، وهذا ما يفسر أنّ باسيل يخوض معاركه منفرداً، بل إنّ «حزب الله» لا يشاطره الرأي في موقفه من جنبلاط، ويلتزم الصمت في موقفه من «القوات» مع إشارات يوجّهها الحزب بنحو غير مباشر والرئيس نبيه بري مباشرة بأن لا «فيتو» لدى الثنائية الحزبية الشيعية على «القوات» وأنّ مشكلة الأخيرة مع باسيل لا معها.
وقد جاء موقف «مجموعة الدعم الدولية» ليؤكّد أنّ التوازن داخل الحكومة يشكّل مطلباً دولياً، حيث أشار في وضوح إلى تأليف «حكومة وحدة وطنية شاملة ومتوازنة لتُمكّن لبنان من متابعة الإصلاحات المطلوبة»، مع التشديد على كلمة «متوازنة»، ومن دون التقليل أيضاً تطرّقه إلى البيان الوزاري وما يجب تضمينه لجهة «المبادئ الدولية غير الرسمية التي حدّدتها المذكّرة التي كانت قدّمتها الى رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف تماشياً مع البيان الصادر عن اجتماعها الوزاري في 8 كانون الاوّل 2017 ومع الوثائق الختامية لمؤتمرات روما وباريس وبروكسل وقرارات مجلس الامن الدولي».
وما تقدّم لا يعني تعقيداً دولياً، إنما بكل بساطة ما هو مطلوب دولياً لجهة تأليف حكومة تؤمّن التوازن السيادي، اي مشاركة «القوات» و»الإشتراكي»، وتلتزم بالإصلاحات في متن بيانها الوزاري وإلّا «لا مساعدات ولا مَن يحزنون»، ومع التشديد علاوة على كل ذلك على القرارات الدولية التي تؤكّد مرجعيّة الدولة وحدها في القرارات الاستراتيجية.
وفي كل هذا المشهد يبقى السؤال المركزي اليوم: مَن يقول «آخ» أولاً؟ وقد شاءت الظروف أنّ 14 آذار كانت تتنازل ليس بفعل الـ»آخ»، إنما بفعل حرصها على الاستقرار وانتظام عمل المؤسسات، وهذا لا يعني أنها لم تعد كذلك، لأنّ هذه المسألة تدخل في البعد الثقافي لا السياسي فقط والمتصل بالتكوين السياسي الدولتي لهذه القوى، إنما الفارق هذه المرة أنّ المتضرّر الأوّل والأكبر من تأخير التأليف هو العهد، وبالتالي هل يستطيع أن يتحمّل باسيل ذلك؟ ومن ثم الرئيس المكلف لا يستطيع تأليف حكومة لا تأخذ في الاعتبار التوازنات المحلّية والخارجية، فضلاً عن دوره في قلب تلك التوازنات، ولذلك لا حكومة قبل أن يقرّر باسيل التراجع درزياً وتدوير الزوايا مع «القوات»، وفي كل ذلك فإنّ نظرية «أم الصبي»، وأخيراً، إلى زوال، والأكيد أنّ معراب و»بيت الوسط» والمختارة ستحافظ على هدوئها المعتاد...