قبل ساعات قليلة على مغادرة البطريرك الماروني بيروت منتصف الأسبوع الماضي في زيارته الأخيرة الى فرنسا وايطاليا بدأ نشر مقتطفات من الأوراق السرية لـ«تفاهم معراب» بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» ممهورة بتواقيع قادتهما والشهود. واثناء وجوده في ايطاليا تابع الراعي المواقف المتشنّجة بما حملته من اتهامات متبادلة بالخروج على مضمون التفاهم وصولاً الى نعيه.
وعلى وقع هذه التطورات، هناك مَن أوحى للراعي بضرورة التدخل على خلفية حماية التفاهم الذي ولد وترعرع في جزء كبير منه تحت عباءته في ضوء المعلومات عن تعهّدات قطعها الطرفان امامه. مع التأكيد انّ هذا الأمر ليس من اجل الحفاظ على مصالح الحزبين فحسب، بل من اجل ضمان الإستقرار الذي وفّره بفعل الرعاية الإقليمية والدولية التي حظي بها هذا التفاهم وعرّابوه «الذين لم يكشف عنهم بعد بوضوح وصراحة، ولا عن الضمانات التي قدمتها عواصم عدة لهما».
وعدّد القريبون من البطريرك دوافع أُخرى تقود الى الحراك الذي دعي اليه، مع التمني عليه بالسعي الى تطويق ردات الفعل السلبية المحتملة التي تركها.
وفي رأيهم انّ على طرفي الإتفاق العودة الى رشدهما وتأكيد التزامهما مرة أخرى ونهائياً بمضمونه السياسي والوطني الذي انهى فترة طويلة من الشغور الرئاسي التي لم يعشها لبنان قبلاً، وتأكيد نتائجه ليس على المستوى المسيحي فحسب، بل على مستوى اعادة التوازن الوطني الذي كان مفقوداً قبل ذلك.
فمجرد الإشارة الواضحة في بنود التفاهم الى التعاون والتنسيق بين طرفيه مع «المكوِّن السنّي» وإدخاله طرفاً ثالثاً فيه عندما خصّص بند أشارا فيه الى احترامهما «لفريق الأقوى» على هذه الساحة للحفاظ على زعامة رئيس تيار»المستقبل». وهو البند الذي جرى تسويقه خليجياً وفي عواصم أُخرى فاعلة سعياً الى الرعاية الخليجية والعربية والغربية والضمانات التي نالها بما فيها قيادته الى انتخاب عون رئيساً للجمهورية.
فقد سبق للطرفين أن طمأنا «المكوِّن الشيعي» باعترافهما المسبق بحضوره القوي وبسلاحه والذي لم يلحظه التفاهم ولو بكلمة أو عبارة واحدة. فقد سلّم الطرفان ـ وخصوصاً «القوات اللبنانية» ضمناً- أنّ الأمر لا يخضع لأيِّ نقاش على كل المستويات منذ سنوات عدة في ظلّ فقدان مَن ينازعهما على هذه الساحة. لا بل هناك مَن يعتقد انهما ـ أي طرفا التفاهم ـ سعيا الى «استنساخ» هذه «الثنائية الشيعية» وتجربتها على الساحة المسيحية وذلك لاستحالة التشبّه بالأحادية السنّية أو الدرزية سواء خطأً أو صواباً.
ويضيف القريبون من بكركي، انّ لكل هذه الأسباب وجب على البطريركية المارونية التدخّل وعدم الوقوف أمام ما أثاره نشر مضمون «الورقة السرّية» لـ»تفاهم معراب» من ردات فعل سلبية. فالجميع تلمّس عقب نشرها بنصها الكامل ردّ الفعل الرافض مضمونها مسيحياً ووطنياً، رغم انّ الوقائع تؤكّد انهما فشلا في ترجمة استيعاب الساحة المسيحية وتقاسمها «مناصفة». ولم ينجحا في تنفيذ ما تعهّدا به من اجل «إلغاء» القوى المسيحية ومحاصرة الأحزاب الأخرى وإقفال البيوتات السياسية التي تعاونا في شنّ الحرب عليها قبل الإنتخابات النيابية وخلالها وبعدها.
وعلى رغم أنّ مضمون التفاهم الذي اعتُبر ساري المفعول منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، لم يتمكّن الطرفان من إنهاء وجود مَن يمثل القوى المسيحية الأخرى في الحكومة والإدارة على كل المستويات من الفئة الأولى وما دونها، وكذلك على المستويات كافة وخصوصاً في البلديات والنقابات والإتّحادات والهيئات الرياضية والطلّابية وغيرها، على رغم محاولات إقتسامها تشبّهاً بتلك الثنائية الشاملة التي أنهت وجود الشخصيات والقوى الشيعية على كل المستويات الحكومية والإدارية والدبلوماسية والقضائية والعسكرية.
وقياساً على هذه القراءة التي استبعدت قدرة الطرفين على اختصار المسيحيين وإلغاء القوى الأخرى ليس لسبب سوى أنّ الساحة المسيحية ترفض منطق الأحادية والثنائية ومعهما التبعية المطلقة لهذا القائد أو ذاك وموقعه أيّاً كان حجمه. وهو أمر يفرض على طرفي التفاهم الإقرار أنه ليس من حقّ أيٍّ منهما التراجع عمّا تعهّد به في «خطوطه العريضة» ولا نسف التفاهم من طرف واحد، وأنّ عليهما العودة الى إعادة تنظيم العلاقة بينهما بصيغة اكثر شمولاً لا تستثني القيادات المسيحية الأخرى.
ولذلك كله، سيسمع موفدا «الثنائية المسيحية» الى الديمان اليوم من البطريرك مطالعة تشكّل «نسخة طبق الأصل» عمّا قاله على منصّة القصر الجمهوري أمس الأوّل. فبكركي لا تغطّي «ثنائية مسيحية» وانّ ما هو مطلوب من قطبيها هو «الإعتراف النهائي» بأنّ هذا «التفاهم ليس ملكاً لهما وحدهما». والإقرار بعدم قدرة أيِّ طرف مهما تمتع به من امتيازات على إلغاء الآخر أو الآخرين. وأنّ المطلوب بإلحاح هو «إعادة توضيح ما ارادوه من هذا التفاهم امام المسيحيين خصوصاً قبل اللبنانيين» وعلى قاعدة أنّ المسيحيين «لا يتحمّلون الثنائيات ولا الأحاديات على ساحتهم»، وأنّ المرغوب هو «حماية التنوّع الكامل من ضمن الوحدة اللبنانية الداخلية»، وليُقِرّ الطرفان أن «لا اقصاء لأحد ولا تفرد مع أحد، ولا أحد فوق احد»، فهل سيفهما مضمون الرسالة ويتّعظان؟