تقسو الحياة على البعض، لا أحد يعرف لماذا وكيف، هي أشبه بأمور مُسلّم بها يصعب احياناً أن نجد تفسيراً لها. تضعنا الحياة في طريق طويلة تتخللها مطبات ومحطات وانتصارات، يُصادف أن تكون تلك الطريق أصعب من غيرها لكن الشخص وحده يُقرر كيف يريد ان يعيش حياته. كانت طريقه صعبة منذ البداية لكن حبه للحياة وقوة شخصيته جعلته يصبح عبرة لكثيرين. وُلد انطوني نحوّل من دون أطراف واليوم هو صاحب شركة، مسيرة مناضلة توقفنا عندها بذهول ... وكما يقول انطوني: "هذه ليست سوى البداية".
لدى انطوني الكثير ليقوله، يعرف ماذا يريد والأهم يعرف كيف يتعامل مع وضعه الصحي ويثبت نفسه في عالم يزدحم بكل الشخصيات والتحديات. صحيح أن طريقه أصعب من غيره، لكنه حتى اليوم نجح في ان يترك بصمة أينما حلّ. لم تمنعه إعاقته من تحقيق أحلامه بل على العكس كانت دافعاً اساسياً يرتكز عليها ليثبت "ان الاعاقة لا تكون إعاقة إلا اذا قررت انت ذلك".
من إيمان لا من فلسفة
ابن 23 عاماً نجح في تعويض نقصه بإرادته وصبره وقوة شخصيته. يسترجع شريط حياته ليكشف لنا كيف بدأ كل شيء وكيف انطلق من عالمه الصغير الى عالم أكبر ويفرض نفسه كفرد في المجتمع. يتحدث أنطوني بإيمان وثقة كبيرين، ربما لأن التجارب علّمته أن "ما من شيء مستحيل. انا مؤمن ان كل ما حدث معي كان بقرار من الله "هيك الله بدو"، هو مسلّم بهذه الإرادة الإلهية، فكلامه نابعاً من ايمان وليس فلسفة كما يقول".
الكل كان ينتظر فتاة كما أكد لهم الطبيب النسائي المتابع حالة والدة انطوني، لم يكن هناك ما يدعو للقلق او الخوف. كان كل شيء طبيعياً الى حين موعد الولادة. لم يُشر أي من الصور الصوتية الى مشكلة خلقية، لكن بعد الولادة كانت الصدمة الطبية والاجتماعية على كل شخص كان موجوداً داخل غرفة العمليات. يصف انطوني ما جرى قائلاً "لم يتوقع احد ان يرى طفلاً من دون أطراف، حالة نادرة وغريبة لم يشهد الطاقم الطبي مثلها سابقاً. كان وضعي حالة غريبة عليهم. لم ير الأطباء املاً وأطلعوا والدي انه يستحيل ان أعيش وانه ربما سأبقى على قيد الحياة لأيام فقط كحدِ أقصى. غالباً ما يموت الطفل بعد ولادته، وفق الدراسات يصعب على احد ان يعيش مع هذا المرض الذي يُطلقون عليه تسمية "Tetra –amelia Syndrome".
لن اعيش
كان الكل في انتظار الطفل الأول للعائلة، لم يكن أحد يتوقع ان يولد بهذه الطريقة. قرر الأطباء تجنباً لأي صدمة جديدة، ان يُخبروا والدته بأنه توفي، برأيهم لن يعيش سوى ايام. كان والده الشخص الوحيد الذي يعرف الحقيقة، لم يعد أحد يعرف شيئاً عن الطبيب النسائي وتولت طبيبة اطفال حالة انطوني على عاتقها. وفق ما يروي انطوني "لقد أطلعت والدي أني سأعيش أكثر منه ومنها، وانها مستعدة لمتابعة حالتي خطوة خطوة. ترك الأطباء لوالدي قرار العمادة، ما دفعه لإخبار الحقيقة لخالي، وبعد مرور اسبوع وتحسن وضعي، قرر والدي ان يُطلع والدتي بحقيقة وجودي وحالتي الطبية."
كانت صدمة كبيرة حين علمت امي بالحقيقة، فهي كانت تظنني متوفياً. ووفق رواية عائلتي والمحيطين "عندما وضعوني بين يديّ والدتي، كان تعليقها الوحيد "اسم الله عيونو شو حلوين".
تربية عادلة
كانت طفولة انطوني عادية، لم تكن تربيته مختلفة عن اشقائه الآخرين، لم يكن هناك تمييز بل كان عليه ان يلتزم بكل القواعد شأنه شأن الباقين من أفراد عائلته. هكذا أرادت عائلته ان تربيه، ربما إيماناً منها ان تحمل المسؤولية سيجعله أكثر قوة في المستقبل.
بقي انطوني سنة بكاملها في المستشفى نظراً لوضعه الصحي الدقيق، وأخيراً عاد الى المنزل ليخوض اختباره الاول امام هذا المجتمع الصغير. كان على والديه ان يتخذا قرراً في شأن حياته وانخراطه في المجتمع. كانا يرفضان عزله وانطلاقاً من ايمانهما قررا مواجهة الجميع بحقيقة وضعه. هكذا اكتشفت حالة انطوني الصحية "ويلي بدو يجي يهنينا اهلاً وسهلاً".
يستذكر انطوني تلك المحادثة التي اجراها مع والده عند بلوغه 3 سنوات، يقول: "كنتُ ذاهباً معه لشراء قالب الحلوى بمناسبة عيد مولدي. وفي طريقي سألت والدي "بابا رح يطلعلي ايدين واجرين؟ لا يمكنني ان انسى جوابه جاوبني بصراحة قائلاً: "لا يا بابا ما راح يطلعلك بس رح قلك شي، كل العالم عندا ايدتين واجرتين بس انت رح يكون عندك اجريي وايديي واجرين وايدين امك وكل شخص رح يتعرف عليك ويحبك رح يكون هوي ايدك واجرك. كل العالم رح يكون عندا 2 وانت رح يكون عندك كتير".
انتصارات لا بدّ منها
تعايش انطوني مع هذا الأمر الواقع، كانت المرة الاولى والأخيرة التي يتحدث بالأمر. وهكذا انطلق في حياته واختباراته الأولى، حيث تلقى علمه في المنزل ويقدم امتحاناته النهائية في المدرسة الى حين وصوله الى صف الـ6eme حيث كان عليه ان يبحث عن وسيلة اخرى لإكمال دراسته. بعد البحث والتدقيق، اتُخذ قرار بتنزيل تقنية point to point الذي تسمح برؤية الاساتذة والطلاب والتفاعل معهم عبر الشاشة. هكذا تلقى انطوني الدروس وتابع تعليمه ونجح في تقديم الإمتحانات الرسمية.
انتهت مرحلة لتبدأ مرحلة أصعب، حيث الخيارات تصعب والمجتمع يتوسع. يشرح انطوني تلك المرحلة في حياته "لم يكن سهلاً ان تخرج الى عالم أوسع بتحديات أكبر. كان عليّ ان اتفاعل مع العالم وجهاً لوجه وليس من خلال الشاشة. كان التحدي في اختيار الاختصاص الأنسب والأحب الى قلبي في الوقت نفسه، كانت الخيارات محدودة الى حدّ ما، لكن حبي للكمبيوتر جعلني اختار اختصاص برمجة الكمبيوتر. لم يكن التحدي بالنسبة الي وحدي، كانت الجامعة ايضاً تحدياً أخوضه بانخراطي فيها حيث تمّ تجهيز ما يلزم حتى اتمكن من حضور الصفوف. وقد اعترفت الجامعة في ما بعد انه بفضلي زادت نسبة التسجيل لذوي الحاجات الخاصة في الجامعة".
قدوة يفتخر بها
من دون ان يدري، نجح انطوني في تغيير مفهوم الإعاقة بطريقة ما، سواء في المدرسة او الجامعة او حتى في العمل. مسيرته النضالية جعلته يكون قدوة لكثيرين. كان عليه ان يتخطى هواجسه الكثيرة لكنه مع الوقت نجح في اكتساب محبة اصدقائه في الجامعة. هكذا انتقل من عالم الدراسة الى عالم أكثر قساوة وصعوبة، عليه ان يثبت انه جدير في تحمل مسؤولية الوظيفة. التحدي كبير والخوف أكبر، لكن انطوني لا يعرف الاستسلام "لطالما كنتُ على قناعة اني سأحقق ما اطمح اليه، لم اكن افكر يوماً أن اختبىء وراء وضعي الصحي، بل على العكس كنتُ اسعى الى اثبات نفسي لأثبت للآخرين ان الجسد ليس كل شيء وان الطموح والارادة كفيلان في تحقيق احلامنا".
لا يمكن لأحد ان يقف في وجه طموحه، يعمل انطوني senior في قسم برمجة الكمبيوتر في احدى الشركات في بيروت بالإضافة الى تأسيس شركته الخاصة A.M.N International . اجتاز ابن الـ 23 عاماً شوطاً كبيراً، وكما يقول: "هذه ليست سوى البداية، الطريق بعدا بأولها. الإعاقة ليست إعاقة إلا اذا انت قررت ذلك، بدك تآمن بحالك وبالله وما في شي بيبقى مستحيل".