ثمة صلافة لبنانية سافرة في العلاقة مع سورية والسوريين. ضيق يصل إلى حد الاختناق باللاجئين السوريين، في مقابل شهية بدأت تكشف عن وجهها حيال ما توفره مقولة «إعادة إعمار سورية» من احتمالات استثمارية. مطالبة بإلقاء اللاجئين السوريين خلف الحدود، ومطالبة موازية بإنشاء «منطقة تجارة حرة» على الحدود لمساعدة رجال الأعمال اللبنانيين الطامحين في التوجه إلى دمشق للمفاوضة على عقود «إعادة الإعمار»!

والحال أن المطالبين بإلقاء اللاجئين خلف الحدود هم أنفسهم تقريباً من تفتحت شهيتهم على الاستثمار في «سورية الأسد». الشرائح الصاعدة من «رجال أعمال» نظام الفساد اللبناني، ممن قضموا الشواطئ اللبنانية، وهدموا المباني التراثية في بيروت، وأنشأوا شركات استفادت من علاقات زبائنية مع رجال السلطة، هم أنفسهم الطامحون إلى حصة في «إعادة إعمار سورية»، وهؤلاء أيضاً من يملكون أو يمولون وسائل إعلام الخطاب العنصري حيال اللاجئين.

مصارف لبنانية كثيرة بدأت تبحث عن «شركاء سوريين» لاستئناف نشاطها في تمويل مشاريع «إعادة إعمار سورية». شركات إنشاءات وفنادق وحتى مدارس، بدأ مدراؤها بزيارات إلى دمشق. «إعادة إعمار سورية ستكون مخرجاً لحال الركود الكبير في بيئة رجال الأعمال اللبنانيين». هذه عبارة يرددها معظم من نلتقيهم من هؤلاء في بيروت! ومن يعرف من هم «رجال أعمال الجمهورية القوية» ستحضره من دون شك مفارقة الفصام الأخلاقي الذي تمثله الشهية الاستثمارية لفاسدي الاقتصاد اللبناني، في مقابل فائض المشاعر العنصرية حيال أهل سورية، والمتمثلة في الدعوة إلى إلقاء اللاجئين خلف الحدود.

قد تكون المطالبة بأن ينسجم اللبنانيون مع خطابهم حيال سورية والسوريين غير منطقية وغير واقعية، ولكن اعتماد خطاب الفصام على نحو سافر مستفز أيضاً. فاليوم كل الأنظار شاخصة إلى «إعادة إعمار سورية». الانتشار اللبناني كف عن أن يكون رافداً للاقتصاد، والسياحة، في ظل وضع حزب الله يده على البلد، صارت مقتصرة على المصطافين اللبنانيين. حقول النفط والغاز العتيدة مشاريع مؤجلة، وهي أصلاً خارج طموحات من هم من غير أهل السلطة بالمعنى المباشر والعائلي للكلمة. إذاً «إعادة إعمار سورية» هو الوجهة الوحيدة، ولهذه الوجهة شروطها التي تتطلب صياغة علاقة مزدوجة مع أهل السلطة في لبنان وأهل السلطة في سورية، وما بينهما من خطوطٍ لعلاقات بين «العائلات التجارية» كمخلوف وباسيل وجمعة وعرب، وبين ما يربط هذه العائلات من علاقات مصاهرة وخؤولة وعمومة، وهي علاقات تصحبنا دائماً إلى رأس السلطة في كلا البلدين.

السلطة في بلادنا هي الفساد قبل أن تكون أي شيء آخر. الحروب تتوج بفسادٍ، والانتخابات أيضاً هي صورة عن شهية الفاسدين. التسويات تُعقد مدفوعة بحماسة الفاسدين إلى حصة في غلة الحروب. ومن بين ما أفسدناه نحن أهل هذه والبلاد وحكامها، هو حقيقة أن العنصرية البغيضة التي لطالما انبثقت من وجدان قومي أو وطني تطهري وجرائمي، أضيف إليها في حالتنا مزاج فاسد ومراوغ. فالصفقة تعقب الجريمة، وفي أحيانٍ كثيرة الصفقة تُحرك الجريمة.

نمارس عنصرية بحق اللاجئين ونعقد صفقات للاتجار بحقوقهم. نسرق الهبات المُرسلة إليهم ونطالب بإرسالهم إلى جحيم الحرب في بلادهم. والجديد أننا اليوم قد سبقناهم إلى بلادهم بعد أن أقمنا منطقة تجارة حرة على الحدود التي سيعبرونها مرغمين. وها نحن ننتظر قدومهم لنعيد «إعمار بلادهم» على نحو ما أعدنا إعمار بلدنا. ننتظرهم بالشهية ذاتها التي انتظرنا فيها «عودة المهجرين» في بلادنا! هل تذكرون «عودة المهجرين» في لبنان؟ هل تذكرون «وادي الذهب»؟ لقد كانت عائدات الفساد في ذلك المشروع نواة لرأسمال تراكمت فوقه عائدات التربع على السلطة لثلاثة عقود من الزمن. وها هم أصحابه ذاهبون إلى سورية لـ «إعادة الإعمار» هناك، وينتظرهم فيها ضباط الاستخبارات السورية البدلاء، ذاك أن الطاقم القديم من هؤلاء الضباط ممن رعوا «إعادة إعمار لبنان» قد تمت تصفيته كله تقريباً.