تختلط الأمور على مراقبين كثر إذا توغّلوا في الحديث المملّ عمّا يحول دون تأليف الحكومة. ولا يستطيع أيٌّ منهم تحديد موعد محتمل لولادتها عندما تتشابك الروايات حول العوامل الداخلية والخارجية التي أدّت الى مجموعة من «العقد البحرية» التي تهدّد التفاهمات المنسوجة بين أهل الحكم.
والأخطر أنّ لكل من اصحاب النظريات المختلفة ما يكفي من الأسباب الموجبة التي تدفع الى تمسّك أصحابها بها الى النهاية. ومن هنا برزت حروبٌ تُخاض تحت شعارات مختلفة بما فيها من قراءات متعددة لمجموعة من التفاهمات المكتوبة. وهو ما أشعل حرب الحصص والأحجام التي تُخاض في إطار السباق الى الحقائب السيادية والخدماتية بما فيها من مظاهر السعي الى الإستئثار بالسلطة وتثبيت النفوذ.
وعلى هامش هذه الحروب، ونتيجة تمسّك البعض بأقصى ما يريد اندلعت حرب أخرى حول صلاحيات كل من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ومعهما المتدخّلون في توزيع الحصص والحقائب. ولذلك سقطت سلسلة من التشكيلات الوزارية المقترحة والتي بُنيت في أساسها على توزيعة الحقائب على الكتل «الأكثر تمثيلاً» في المرحلة الأولى قبل الوصول الى مرحلة توزيعها على «الأقل تمثيلاً» ومن ثمّ إسقاط الأسماء على الحقائب.
وقبل بلوغ المرحلة الثانية، تعثّر التفاهم على الأولى وأُصيبت كل المبادرات بالفشل، فانعكس الأمر على بقية المراحل. وظهر جلياً أنّ الخلاف بين الرئيس المكلف من جهة ورئيس الجمهورية من جهة أخرى حول عقدتي التمثيل المسيحي والدرزي تحديداً، قد انعكس حرب «صلاحيات دستورية» ليس سهلاً إخفاؤها على رغم نجاحهما في لقائهما الاخير بتنظيم هذا الخلاف وتقاسم الأدوار والمسؤوليات لفكفكة العقد.
لكنّ التطوّرات والمواقف التي تلت المحاولة الأولى للتأليف عزّزت الإعتقاد بأنّ الخلاف موجود وقائم وليس بالضرورة أن يكون بينهما شخصياً. ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل ينسحب هذا التفاهم على مَن يحوط بهما من مستشارين وخبراء في القانون والدستور يفتشون عن دور لن يتوافر لهم ما لم يكن هناك خلاف بينهما.
ولولا هذه الأجواء لما تداعى رؤساء الحكومات السابقون الى لقاء عند الرئيس المكلف للتشديد على صلاحياته، ولا شدّد «مجلسُ المفتين» في اجتماعه أمس الأول على هذه الصلاحيات. ولما اضطر قبل ذلك مكتب الإعلام في القصر الجمهوري الى التذكير بصلاحيات رئيس الجمهورية ودوره في التأليف.
ويتوسّع الحديث عن محاولات رئيس الجمهورية لترميم العلاقات بين «التيار الوطني الحر» وبين حزبي «القوات اللبنانية» و»التقدمي الإشتراكي» لضمان الوصول الى «كعكة حكومية» ترضي الجميع. لكن ما أصاب هذه المحاولات من وهن، لا ينبِئ بالتفاؤل الذي أراده وقصده.
فانكشاف كثير من الحقائق بعد نشر بعض «البنود السرّية» لـ «اتفاق معراب» عقب إطلالة باسيل التلفزيونية وما تلاها من «أمر عمليات حكومي» عبّرت عنه مقدّمة نشرة الأخبار في تلفزيون «أوتي في»، لا يبشر بإمكان ترميم العلاقات بين «التيار» و«القوات» بل إنه زاد من الشرخ بينهما. الامر الذي سيزيد مهمة الحريري تعقيداً. فجدول المقارنة بين ما نصّ عليه الإتفاق وما شاب علاقات الطرفين في الحكومة الحالية لا يبشر بإمكان التفاهم مجدّداً أو التمديد للإتّفاق في أيام الحكومة العتيدة.
وكما على الجبهة المسيحية، كذلك على الجبهة الدرزية، لا يظهر أنّ ترميم العلاقات بين «الحزب الإشتراكي» و»التيار» ممكن أو سهل، فالحرب بينهما عبر وسائل التواصل الإجتماعي لم تهدأ سوى لساعات قليلة قبل أن تستعر من جديد وسط أجواء احتقان تعيشها المناطق الدرزية مجدّداً عقب المواقف التي أُطلقت على خلفية كسر أحادية التمثيل الدرزي.
ولذلك، لن يكون سهلاً أمام عون والحريري استئنافُ مساعيهما مجدداً ما لم يتمّ التوصلُ الى آلية جديدة غير تلك التي اتّفقا عليها في لقائهما الأخير. فلكل منهما موقف مختلف عن الآخر إزاء العقدتين المسيحية والدرزية والحلول المقترَحة لهما. وكل منهما يناصر طرفاً، وستصاب مساعيهُما بشظايا المواجهة المستمرة بلا أفق.
وفي ضوء فقدان خريطة الطريق الى الحلّ، سُئل احدهم عمّا بلغته المساعي لتأليف الحكومة وعمّا إذا كانت «طبخة بحص»؟ فأجاب: «بالتأكيد طبخة بحص، والأخطر أنّ البحص هو من صوّان»ّ!