ثمّة تسليم عام بأنّ الحكومة الجاري تأليفها، صورة مستنسَخة عن سابقاتها، والتغيير الممكن الذي ستحمله هذه الحكومة، اذا ما قُدِّر لها ان تتشكّل في قابل الايام، لن يطال بالتأكيد لا النهج ولا العقليات التي حكمت ما سبق، خصوصا انّ الوجوه تكاد تكون هي نفسها، وأنّ التغيير الذي يمكن ان يحصل، هو تغيير في الوجوه والاسماء لا اكثر ولا أقل. وتبعاً لذلك فإنّ ما تطالب به بكركي ليس حكومة النهج القديم وإعادة تجريب المجرَّب، بل حكومة فاعلة ومنتِجة على كلّ المستويات، ومن هنا جاء تحذيرها عبر مجلس المطارنة الموارنة من «أنّ كلّ تأخير في تشكيل الحكومة سيمنع تفعيل الاقتصاد ويعرّض الاستقرار المالي الى الاهتزاز».
وفي بيانٍ بعد اجتماعه الشهري برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، لم يقارب بإيجابية ما وصَفه» النقاش المسيطر في شأن الحصص والاحجام»، الّا انّه حدّد خارطة الطريق الحكومية بلفتِ الانتباه الى «أنّ الحكومة التي تتمثل فيها الأحزاب، يجب أن تعمل بالدرجة الأولى على اتفاق على سياستها في الحقول كافة، ويجب أن يكون الاتفاق على قواعد الخير العام والعدالة الاجتماعية، ويشرع المكلفون في التشكيل باختيار الأسماء التي ليس من الضرورة أن تكون جميعها من السياسيين، وإلّا يُخشى أن تكون الحكومة مجالاً لتنازع القوى والمصالح الخاصة أو الحزبية الضيقة، وهذا عكس ما ينتظر منها في المرحلة المقبلة».
وإذ لفتَ المجلس الى «أنّ القطاع المالي المستقرّ يتطلّب تفعيل البنى الاقتصادية المُنتجة». عبّر عن قلقه «ممّا تتسبّب به التجاذبات السياسيّة السائدة من اهتزازات بنيوية في القطاعات الاقتصادية في لبنان، ومن تراجعٍ في أكثر من مجال اقتصادي، بالرّغم من الجهود التي تُبذل على هذا الصعيد.
صيّاح
وقال النائب البطريركي العام المطران بولس صيّاح لـ«الجمهورية» إنّ موقف بكركي هو تحذيري، فالكنيسة لا تهدف الى تخويف الرأي العام، بل الى إصلاح الوضع».
وأوضَح أنّ «بكركي تدعو إلى تأليف الحكومة لأنّه يقع على عاتقها مسؤوليات كبيرة، يجب أن تباشر بها، خصوصاً أنّ عملية الإنقاذ الوطني ضرورية ولا يمكن أن تتأخّر، والتأخّر في التأليف ليس من مصلحة أحد من الأفرقاء». وأشار الى «أنّ بكركي تدعو الى تعاون كلّ السياسيين مع بعضهم البعض والحوار من أجل المصلحة العامة».
هدنات .. لا تبدو صلبة
حكومياً، كلّ ما هو متصل بحركة التأليف، مؤجّل الى ما بعد عودة المسافرين، في الايام القليلة المقبلة، على ان يشكّل الاسبوع المقبل محطةً لجولة مشاورات جديدة. وإذا كان الطباخون الاساسيون قد حاولوا الإيحاءات بنيّات جدّية لتفعيل حركة الاتصالات المقبلة بما يؤدي الى ولادة الحكومة قبل نهاية الشهر الجاري، الّا انّ هذه الوعود تسقط سَلفاً بالضربة القاضية، مع استمرار التباين العميق بين الاطراف السياسية حول شكل الحكومة، وأحجام الأطراف ونوعية الحقائب، وكذلك حول معايير التمثيل، حيث بدا جلياً عدم وجود معايير موضوعية ومنطقية للتمثيل. ما يعني انّ هذا التباين الذي اكّدت مواقفُ الاطراف عمقَه وصلابته، اضافةً الى ما يحيط به وخصوصاً ما يمكن تسميته «الجشع» على الحقائب واحتكار التمثيل، يدفع الى النعيِ المسبَق لهذه المشاورات طالما انّ اياً من اللاعبين على مسرح التأليف لم يتنازل او يتقدّم خطوة في اتجاه الآخر.
واضحٌ في هذا الجو المقفل، أنّ كلّ الشغل الحالي، يجري خارج ملعب التأليف، وتتفرّع عنه محاولات متتالية لتبريد الجبهات السياسية التي علّقها الفشل في تشكيل الحكومة على خط التوتّر العالي، ولعلّ الدافع الى ذلك هو تمرير الوقت وعدم تركِ الاختلاف السياسي في دائرة التفاعل.
وإذا كانت هذه المحاولات قد نجحت ظاهرياً في الوصول الى نوع من الهدنة ووقفِ التراشق السياسي والاعلامي على اكثر من خط، الّا انّها ليست مبنية على اساس جدّية تمنع وصفَها بالهدنة الهشة. ويندرج في هذا السياق الهدنة الجديدة بين فريق رئيس الجمهورية ومن خلاله مع التيار الوطني الحر، وبين الحزب التقدمي الاشتراكي. وكانت لافتةً في هذا السياق ايضاً الزيارة التي قام بها رئيس الحزب النائب السابق وليد جنبلاط الى القصر الجمهوري ولقاؤه رئيسَ الجمهورية ميشال عون.
ووصَف مطّلعون اللقاءَ بالإيجابي «ذلك انّ عون لم يكن ينتظر من اللقاء اكثرَ ممّا أراده. فهو دعا الى عقده في اطار مساعيه لتعزيز اجواءِ التهدئة ووقفِ الحملات المتبادلة على اكثر من مستوى. وشدّد عون على اهمّية تعزيز اجواء المصالحة، وإنهاء الأجواء الضاغطة التي خلّفتها الحملات المتبادلة، وهو ما رحّب به جنبلاط في اللقاء وترجم المتفق عليه في تصريحه على منصّة الرئاسة فور انتهاء اللقاء. بدعوته «المناصرين» الى «تخفيف اللهجة».
وبحسب المطلعين فقد تمّ تناوُل الملف الحكومي من باب المجاملة عند الحديث على أهمية انطلاق العمل في المؤسسات الدستورية وهو أمرٌ ينطلق من تشكيل الحكومة الجديدة لمقاربة الملفات المفتوحة على شتّى الاحتمالات. وتوافق عون وجنبلاط على استحالة مقاربة ملف التشكيل والعقد التي تحول دون إتمامها قبل توفير أجواء الهدوء في البلاد بعيداً عن التشنّج.
وفي خلاصة كلام المطّلعين «إنّ اللقاء كان اشبَه بلقاء كسرِ جليد»، الّا انّه كسرٌ يبدو انّه لم يكتمل. خصوصاً مع تأكيد جنبلاط للصحافيين بأنه مازال على رأيه وموقفِه من فشلِ العهد، حيث قال: «لن أتراجع عن الكلمة. فلو نجح قسم من العهد، كي لا نشمل العهد بكامله، في معالجة قضية الكهرباء منذ سنة ونصف لَما زاد العجز مليارَي دولار». كما اكّد من جهة ثانية على تسمية الوزراء الدروز الثلاثة في الحكومة لأنه نتيجة الانتخابات أعطانا التصويت الشعبي والسياسي هذا الحق.
«القوّات»
ويندرج في سياق هذا النوع من الهدنة الهشّة، ما هو قائم حالياً بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. الّا انّ الطرفين اللذين قرّرا عدم تبادلِ اطلاق النار السياسي والاعلامي، يُشبه وضعُهما، حالَ من يمدّ اليد الى الآخر بغصنِ الزيتون وبإرادةٍ للحوار والنقاش، وأمّا في اليد الثانية فيحمل سلاحاً جاهزاً للقصف السياسي في ايّ لحظة.
وما يعزّز هشاشة الهدنة، هو انّ «القلوب مليانة» بكلّ اسباب الاشتباك، ويتأكّد ذلك بتمسّكِ الطرفين كلٌّ بوجهة نظره وشروطه وثوابته ومطالبِه. وفي هذا السياق، قالت مصادر «القوات اللبنانية» لـ«الجمهورية»: القوات متمسكة بما افرَزته الانتخابات، وهي غير مستعدّة للمساومة على الامانة التي منَحها لها الناس، ولديها وجهة نظر ستشرَحها للوزير جبران باسيل مناقضةً تماماً لوجهة نظره.
اضافت المصادر: هناك من يخفي وراءَه محاولات لتحجيم «القوات»، وهذا امرٌ مستحيل، فضلاً عن انّ هناك طريقة احتسابية اجرَتها «القوات» وستشرحها لباسيل بالتفصيل.
وأكّدت المصادر انّ «القوات» ترفض الاقتصاص او الانتقاص من حصّتها، ومِن هنا فإنّ المفاوضات ستكون طويلة وصعبة وشاقّة، ولكن لا نتراجع، وإذا كان المطلوب هو تدوير الزوايا، فهذا يعني تدويرَ زوايا من قبَل الطرفين وليس من قبَل طرف لطرفٍ آخر يَعتبر نفسه منزَّها، والآخَرون يتنازلون له.
وقالت المصادر، وبقدرِ ما نتمسّك بالحوار نتمسّك بتفاهم معراب، وهذا الملف سيأخذ شرحاً مستفيضا بيننا وبينهم، فالقوات لن تقبل على الاطلاق اتّهامَها عند كلّ مفترق انّها ضد العهد، في حال اعترَضت على موقف لباسيل. نحن مع العهد في العناوين الكبرى، وأمّا في العناوين الاخرى فلكلّ طرف موقفٌ يتناسب وقناعاته، وغيرُ مقبول ان يقدّم احدٌ نفسَه على الآخرين ويقول أنا القاطرة وأنتم المقطورون.
باسيل
من جهته، أكّد رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل أنّ «اتفاق معراب ليس لائحة طعام نختار منها ما نشاء وأساسه سياسي يقوم على دعمِ العهد لتحقيق مشروع مشترك ومِن ضمنه تفاهم ثنائي غير ملزم للآخرين على الحكومة والتعيينات والانتخابات النيابية».
وأضاف: «بالنسبة لنا المصالحة المسيحية على المستوى الشعبي لا عودة عنها، ولهذا تحمّلنا الإساءات والظلم»، مشيراً إلى أنه من «حقّ القوات أن تسعى لأن تكبر سياسياً وكذلك «التيار»، لكن لا يجب أن نقتل بعضنا بعضاً في السياسة، ونحن لا نريد للآخرين ان ينفّذوا ما نريد، وهذه الفكرة التي يسوقها البعض خاطئة».
وأشار إلى انّ «التكتلات النيابية المعلنة واضحة ومعروفة، وعلى أساسها يجب أن تشكّل هذه الحكومة».
واعتبَر أنّ «العقدة المسيحية من الأسهل حلّها، لأنّ هناك عقداً كثيرة»، وقال: «بحسب التوزيع المعمول به لا يحقّ للقوات إلّا بثلاثة وزراء، لكنْ نحن لم نقل إنّنا لا نقبل بأن ينالوا أربعة، أمّا إذا طالبوا بخمسة فيصبح حقّ التكتّل عشرة، لأنّ حجمنا هو الضعف». وشدّد على «ضرورة تمثيل النائب طلال إرسلان في الحكومة»، مشيراً الى أنّ «هذه العقدة قابلة للحلّ».
سُنّة المعارضة
إلى ذلك، يُعقد اليوم اجتماع لـ»نوّاب سُنّة المعارضة» في منزل النائب فيصل كرامي ويضمّ النواب عبد الرحيم مراد، جهاد الصمد، الوليد سكرية ، قاسم هاشم وعدنان طرابلسي. وأوضح الصمد لـ«الجمهورية» أنّ الغاية من الاجتماعات هي تصويب التمثيل السنّي في الحياة السياسية في لبنان. مؤكّداً ضرورة ان يتمثّل لقاء هؤلاء النواب بوزير في الحكومة، خصوصاً انّهم وصَلوا بأصوات ناخبين حقيقيين وجمهورٍ واسع. إنتخبونا تاييداً لقناعاتنا ومواقعنا، ورفضاً للانحراف الذي اصاب الطائفة وتأكيداً على وجوب تصويب البوصلة وإعادتها الى المسار الصحيح.
وقال: نحن موجودون في الحياة السياسية، ولنا رأيُنا ولنا حيثيتنا وحضورُنا ولنا جمهورنا، ولا أحد يستطيع ان يتخطى كلّ ذلك، لذلك نحن نصرّ على التمثيل في الحكومة، إذا كانوا يريدون ان يشكّلوا حكومة موالاة ومعارضة فأهلاً وسهلاً نحن نقبل الفكرة وساعتئذٍ ننتقل الى المعارضة، لكنّهم يقولون انّهم يريدون حكومة وحدة وطنية، لذلك يجب ان نتمثّل، والاهمّ الآن هو وجود معيار واحد يطبّق على الجميع.
النازحون
من جهةٍ ثانية، لفتَ في الساعات الماضية بروز تسريعٍ في الخطى المرتبطة بعودة النازحين السوريين، واندرَج في هذا السياق بيان لـ«حزب الله»، اعلنَ فيه استعدادَه لقبول طلبات النازحين الراغبين بالعودة الطوعية. واشارت مصادر الحزب الى تنسيق بينه وبين السلطات السورية لإنجاح «مبادرة العودة» التي اطلقَها الامين العام للحزب السيّد حسن نصرالله.
وإذ تتحدّث المصادر عن مغادرة الآلاف من النازحين في الفترة المقبلة، تجري تحضيرات لمغادرة دفعة ثانية من بلدة عرسال. وفيما شدّد مجلس المطارنة الموارنة على وضع خطّة وطنية شاملة في شأن النزوح وعودة النازحين إلى بلادهم، اكّد اللقاء الديموقراطي على مبدأ العودة الطوعية بانتظار إيجاد حلّ سياسي شامل.
«الكتائب» لـ«الجمهورية»
وقال مصدر كتائبي مسؤول لـ«الجمهورية»: التأخير في تشكيل الحكومة ينعكس سلباً على المعالجات المطلوبة للأزمات الداهمة ومن بينِها مشكلة النازحين وانعكاساتها السلبية نتيجة عدم مبادرةِ المؤسسات الدستورية اللبنانية الى صوغ مشروع عملي متكامل لحلّ هذه الأزمة.
وأكّد المصدر «انّ أزمة النازحين تتطلب حالة طوارئ سياسية ودبلوماسية واستنفارَ الطاقات والصداقات العربية الدولية لمساعدة لبنان على مواجهة هذه المعضلة، وهو ما لا يمكن ان يتمّ في ظلّ حكومة مستقيلة تصرّف الاعمال ولا يمكنها رسمُ السياسات واتّخاذ القرارات». وعلى الدولة اللبنانية والمؤسسات الدستورية الشرعية ان تتحمّلَ مسؤولياتها في هذا المجال، وألّا تستقيلَ من واجباتها وتتخلّى عنها لأيّ جهة كانت في وقتٍ المطلوب من الدولة استعادة ما تخلّت عنه من صلاحيات وواجبات ومسؤوليات».
وذكّر المصدر بموقف الحزب» الداعي الى الطلب رسمياً من روسيا ان تتولّى دور الوسيط بين الحكومتين اللبنانية والسورية لإعادة من يمكن إعادتهم من النازحين الى المناطق الآمنة التي تشارك روسيا في وضع أسُسِها والاشراف عليها وإلى استحداث المزيد منها والى طلب ضمانتها لأمن العائدين، ممّا يساهم في تشجيع المنظمات الدولية والمجتمع الدولي على رفعِ تحفظاتِها عن عودة النازحين بحجّة عدمِ تعريض حياتهم للخطر.علماً أنّ النائب سامي الجميّل كان قد لمسَ خلال زيارته موسكو استعداداً روسيّاً رسمياً للعِب هذا الدور ونقلِ هذه الأجواء الى المسؤولين اللبنانيين من دون ان يبادر هؤلاء الى ايّ خطوة عملية».