المؤرّخ كمال الصليبي توصل الى إستنتاج أن أساس مشاكل قيام لبنان هو غياب الهوية المشتركة بين أبنائه بطوائفهم وأطيافهم المختلفة،هذا بالاضافة الى هوياتهم المركبة، أما اليوم فيمكن إضافة أن أساس ضياع الجمهورية عن طريق النهوض بدولة المؤسسات هو ليس غياب مفهوم الشراكة الحقيقية بين أبناء الوطن الواحد فحسب بل الابتعاد عن تطبيق الدستور والالتزام به نصاً وروحاً.
ولربما ان أحد أكثر وجوه أزمة التأليف وضوحاً وتعبيراً ودلالة، هو الاجتماع السنّي الذي جمع الرئيس المكلّف ورؤساء الحكومات السابقين قبل فترة.، ما هو إلا تعبير واضح إذا ما دققنا بخلفياته على انه ترجمة لشعور سني بأن هناك من دخل على خط المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة" السني "خصوصاً لناحية صلاحياته الدستورية في إطار عملية تشكيل الحكومة. ومن الطبيعي أن هذا الاجتماع أتى إعتراضاً على البيان الرئاسي الصادر عن رئيس الجمهورية والذي تضمن تأكيداً على صلاحيات الرئيس بما يتعلق بتأليف الحكومة بالاضافة الى حقه الحصري حسب البيان في إختيار نائب رئيس الحكومة. مع العلم أن الدستور أعطى للرئيس المكلف الصلاحية في تشكيل الحكومة كما أعطى الصلاحية لرئيس الجمهورية الموافقة بتوقيع المرسوم أو برفض التشكيلة بامتناعه عن توقيع المرسوم هذا ما حدده الدستور أما غير ذلك فيعتبر التفاف على الدستور.
هذا الأمر ترك في الواقع السني شعوراً حقيقياً عند الجميع معارضة أو موالاة بأن البيان الرئاسي يستهدف صلاحيات الرئيس المكلف وإغراقه بسلسلة من الأعراف والشروط التي لا نصّ دستوري حولها . وهنا يقول أحد رؤساء الحكومات السابقين إنّ البيان الرئاسي لم يكن منتظراً لا في توقيته، ولا في مضمونه الذي يعكس إلتفافاً على صلاحيات الرئيس المكلف، ويهمّش مهمته ودوره في تشكيل الحكومة ويُظهره وكأنه ليس المعنيّ الأول في تشكيل الحكومة وليس أحد غيره. ناهيك عن الحملة غير البريئة التي أُثيرت قبل البيان وحملت في بعض جوانبها «كلاماً مدروساً» عن تحديد سقف زمني للتكليف، تواكب مع كلام جرى تسريبه ومن ثمّ نفيه، عن وجود بدائل جاهزة للحريري.
إقرأ أيضًا: الحكومة لما بعد منتصف تموز
وهناك مَن يقرأ في الاعتراض السنّي على هذا الجانب، أنّ ما يطالب به الاطراف لتسهيل ولادة الحكومة أكبر من أن يقدر الحريري على تقديمه.
فصحيح أنّ الأطراف تعبّر عن استعجالها تأليف الحكومة، ليس من باب الحرص على إطلاق عجلة البلد والتصدّي لأزماته وقضاياه، بل بوصف الحكومة الجاري تشكيلها حكومة حتى نهاية العهد، من هنا يأتي استعجال كل طرف انطلاقاً ممّا يفيده، وعينه على السنوات المقبلة التي يرى أنها توجب عليه تحصين نفسه بالقدر الأكبر من الحقائب والمصالح والمكاسب طبعاً. ومن الواضح بحسب هذا الواقع، أنّ مصلحة الأطراف المتقاتلة على الحقائب، في التعجيل بحكومة يحتلّ فيها كل طرف حضوراً كبيراً يفوق حضور الآخرين، وفي الوقت نفسه فإنّ للحريري مصلحة كبرى في ولادة سريعة للحكومة، ولكن ليس أيّ حكومة، هو يريد حكومة يرى نفسَه فيها، بحضور فاعل ووازن يستعيد من خلاله وزنه داخل طائفته وداخل موقعه السياسي في آن معاً، ويؤكّد بالتالي انتقاله من المربّع السياسي الذي ثبت فيه في السنوات الأخيرة، الى مربّعه الأول على ما كان عليه الحال في زمن «14 آذار»، التي تتكثف جهود الأصدقاء الأقربين والأبعدين لإعادة ترميمها وإحيائها بالشكل الذي كانت عليه ما بعد العام 2005.
وبناءاً على ما تقدم فإن جمهورية الطائف تتعرض بهذه المرحلة الى تحدٍ حقيقي ولربما أن يتطور هذا التحدي إلى وضع دستور الطائف خارج الخدمة، وذلك من خلال الالتفاف عليه بسلسلة من الاعراف تسعى الى تفريغ الطائف من مضمونه ومن ثم الغاؤه في ظل لحظة إقليمية مناسبة. ومن أبرز هذه الاعراف بمعزل عن البيان الرئاسي الذي شكل حالة سلبية من خلال الصاقها بالدستور ،تكريس عرف التشاور بين الرئيس المكلف ورئيس التيار الوطني الحر الذي بدا وكأنه يحمل صفة رئاسية من خارج الدستور. هذه الاعراف ما هي الا تعبير حقيقي في ممارسة إكراه للانتظام العام في ظل هيمنة سلطة تحتكر كل مفاصل الدولة من غير ان يرافق ذلك أي تغيير في الدستور. لهذا اتى اجتماع رؤساء الحكومات السابقين في بيت الوسط ليعطي تفويضاً للرئيس المكلف هذا من جهة ومن جهة ثانية لينقل الجدل من دائرة تطويق الرئيس المكلف وإضعاف دوره، تمهيداً لإحراجه ومن ثم إخراجه. ليطلق بطاقة صفراء حول الخطر المحدق بالنظام السياسي برمته. إنّ تحيّن الفرص للانقضاض على الطائف عبر محاولة نقل ميزان القوى من درعا الى لبنان، واللعب عند حدود النزاعات الكبرى، وربما تفعيل مجموعة الـ 74 نائباً الذين أعلن عنهم قاسم سليماني لإخراج الرئيس الحريري أو لاستعادة نموذج رؤساء حكومات ما قبل الطائف، هو إمعان في الرقص على حافة الهاوية، وعودة بالصراع السياسي الى المربع الأول وربما دعوة مفتوحة لاستدعاء ميزان القوى في «الحُدَيّدة»، بما لا يضمن العودة الى دستور 1943 بل الى زمن المفوّض السامي.