في الأيّام القلية المقبلة يحضر دونالد ترامب قمّتين: الأولى في بروكسيل، للدول الأعضاء في حلف الناتو. بعد أقلّ من أسبوع، ستُعقد قمّته الأولى مع فلاديمير بوتين في هلسنكي.
القمّتان، هذه المرّة، خياران، بل: خياران متضاربان: إمّا الناتو أو بوتين. إمّا أوروبا أو روسيا.
سبب ذلك أنّ الأعضاء الرئيسيّين في الناتو هم على علاقة متوتّرة مع بوتين. من تعابير هذا التوتّر طرد روسيا، إثر احتلالها شبه جزيرة القرم قبل عامين، من مجموعة «الدول الثماني» التي صارت دولاً سبعاً. في القمّة الأخيرة لهذه الدول السبع، في كيبك بكندا، بدا واضحاً، ومفاجئاً، أنّ ترامب ينوي إعادة روسيا إلى صفوف المجموعة الصناعيّة.
علاقة ترامب بدول الناتو ليست على ما يرام. ففضلاً عن انتقاداته التي باتت معروفة للرابطة العسكريّة نفسها، وعن مطالباته دولَه بزيادة إسهامها الماليّ، يندرج موقفه من الحلف في موقفه الأعرض من المؤسّسات الدوليّة وأشكال التعاون العابر للحدود. هذا ما تجلّى في تعاطيه السلبيّ مع اتّفاقات البيئة والتجارة الخارجيّة. إنّه، أيضاً، يعبّر عن ميوله القوميّة والانعزاليّة التي تستجيب للنوازع الشعبويّة العميقة لدى قاعدته.
في المقابل، علاقة ترامب ببوتين أقلّ تعقيداً، وإن كانت تنطوي، هي الأخرى، على بعض العقد. ذاك أنّ التحقيقات في صدد التدخّل الروسيّ في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة لم تُغلق بعد، وسوف تكون أيّة مبالغة في العناق بين الزعيمين مصدر شبهة وامتعاض. هذا فضلاً عن أنّ بعض دوائر الإدارة الأميركيّة والحزب الجمهوريّ لا تكتم اعتراضها على سياسة الانسحاب من العالم، وبالتالي تسليم موسكو مفاتيح قوّة لم تكن تحلم بمثلها. ما تبقّى من تحالف مع الأوروبيّين لن يكون مطمئناً لسياسة تقارب مفتوح مع الكرملين تغضّ النظر عن احتلال القرم وعن استراتيجيّات التدخّل الروسيّ في أوروبا والعالم.
من جهة أخرى، لم يعد سرّاً إعجاب ترامب ببوتين، وتفضيله هذا النمط من الزعامات الشعبويّة على قادة ديموقراطيّين كالمستشارة الألمانيّة أنغيلا مركل أو الرئيسين الفرنسيّ والكنديّ إيمانويل ماكرون وجوستين ترودو. وحتّى لو وضعنا النيات جانباً، يبقى أنّ سياسات ترامب في تفكيك التحالف مع أوروبا وإضعاف مؤسسّاته هديةٌ ثمينة لبوتين وطموحاته التوسّعيّة.
إذاً هما خياران يحاصر كلّ منهما الآخر. لكنْ فوق هذا، تتكاثر اليوم الأصوات التي تقول إنّ صفقة كبرى ما، مسرحها الشرق الأوسط، ستقوّي الخيار الروسيّ عند ترامب على الخيار الأوروبيّ. أمّا المقصود بهذا فصياغةٌ جديدة للمنطقة تطال سوريّا وإيران والإرهاب والموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، بحيث تتكامل جهود واشنطن وجهود موسكو.
لكنْ إذا جاز القول بأنّ حظّ هذه الصياغة من النجاح ليس مضموناً أبداً، فذلك لا يلغي إقدام ترامب على تجريبها والاستثمار فيها، وبالتالي على استكشاف ميادين أخرى لـ «التعاون» مع بوتين. فإن اختير هذا السبيل، وفي انتظار اتّضاح نتائجه، كان المعنى مزيداً من التهميش لأوروبا ولأدوارها ونظرتها إلى العالم. ومن يدري! فقد يترتّب على ترجيح واشنطن الخيارَ الروسيّ على الخيار الأوروبيّ مزيد من تشجيع الشعبويّين في أوروبا الغربيّة على التجرّؤ على الديموقراطيّة الليبراليّة في بلدانهم. وهذا، للأسف، ما بات يملك سوابق ناجحة في إيطاليا، وقبلها في النمسا، حيث حكومتان شعبويّتان تمسكان بعنقي بلديهما، فيما يتكاثر المعجبون بهما والراغبون في التقليد.