وافقت إسرائيل على دخول جيش النظام السوري إلى درعا. جرى ذلك عبر اتفاق روسي- سوري وبموافقة أميركية! لكن ما لم يُعلن عنه أيضاً أن الاتفاق الذي رعته موسكو شمل ضمانات روسية بابتعاد الإيرانيين والميليشيات الموالية لهم، ومن بينها حزب الله اللبناني، عن الحدود السورية- الإسرائيلية. بل يُرجح مراقبون أن يكون الروس تكفلوا بخروج الإيرانيين من كل مناطق الجنوب السوري.
تحرك جيش النظام السوري باتجاه درعا وصولاً إلى الحدود مع الأردن ومع إسرائيل، ما كان يمكن أن يبدأ من دون موافقة إسرائيلية، فقبل شهرٍ واحدٍ فقط كان تقدم هذا الجيش يعني لتل أبيب تقدماً للحرس الثوري الإيراني، وهذا ما كان مستحيل الحدوث، الغارات الإسرائيلية اليومية توقفت فجأة، وباشر جيش النظام تقدمه. سيناريو بالغ الوضوح. الضمانات التي قُدمت لإسرائيل لا يمكن النقاش حول صحتها.
طبعاً الضحية الأولى لهذا الاتفاق هي فصائل المعارضة السورية المسلحة في جنوب سورية، ذلك أن تواطؤاً عليها شاركت فيه كل القوى والدول المحيطة بهم. ومرة أخرى تدفع هذه الفصائل أثماناً تصل إلى حد استئصالها من المعادلة وتحولها رقماً صغيراً في أيدي قوى إقليمية ارتهنت إليها. لكن ثمة واقعة لم يعد لها موقع في ذاكرتنا المتصلة بالمأساة السورية، ففي مطلع عام 2011، أي العام الأول لانطلاق الاحتجاجات في سورية، أجرى مراسل «نيويورك تايمز» الصحافي الراحل أنطوني شديد، مقابلة مع ابن خال بشار الأسد، رجل الأعمال السوري رامي مخلوف قال الأخير فيها حرفياً: «اذا لم يكن هناك استقرار في سورية لن يكون هناك استقرار في إسرائيل. لا أحد يستطيع أن يضمن أمن إسرائيل اذا حصل شيء لهذا النظام»! يومها انتفضت صحافة الممانعة المقربة من النظام لـ «كرامتها» وشنت هجوماً على مخلوف، والأرجح أن «شفافية» الرجل تسببت بتقريعه من النظام.
لكن ما يجري اليوم هو أحد الفصول التي كان مخلوف قد «استشرفها»، ففي سياق تداعي دفاعات النظام وصل الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الموالية له إلى سورية بهدف حماية النظام. والحرس الثوري، ومن ورائه ترسانة الممانعة، يدرك أن حماية النظام لا يمكن تأمينها إلا عبر إطلاق أبواق حربٍ إقليمية تثير مخاوف العالم. النظام يدرك أن خوف العالم على إسرائيل أقوى من رغبته بدعم انتفاضة السوريين على النظام. وعلى ضوء هذه المعرفة اقترب الحرس وميليشياه من الحدود مع إسرائيل، وباشرت الأخيرة غارات يومية على مواقعه. هذه الغارات كانت مقدمات حرب شاملة. فتح الروس الأجواء السورية للطائرات الإسرائيلية وراحت هذه الطائرات تقصف المواقع الإيرانية يومياً من دون أي رد فعل من قبل طهران وحلفائها. إلى أن حان موعد الصفقة، فالغاية من اقتراب الإيرانيين من الحدود لم يكن يوماً الرغبة في الحرب مع تل أبيب، والأخيرة بدورها غير معنية بمستقبل النظام إذا ما كان هذا الأخير خاضعاً لشرطها المتعلق بعدم الاقتراب من الحدود، وهي مستعدة لإعطائه فرصة حياة إذا ما أمّن لها حدودها على نحو ما فعل طوال 40 سنة في الجولان.
طهران بدورها حققت الهدف من وراء تمددها في سورية: الابتعاد من الحدود مع إسرائيل هو جزء من صفقة تحفظ لها نفوذها في دمشق، بعيداً من هذه الحدود. «تحرير فلسطين» يمكنه أن ينتظر قروناً طالما أن هناك غِلالاً مذهبية تأمنت بفعل الصراع مع «العدو».
نبوءة رامي مخلوف تحققت بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد أجادت الممانعة توظيف فلسطينـ»ـها» لحماية أنظمة الاستبداد والقتل مرة أخرى. ومرة أخرى كشفت قوى الاحتراب الأهلي المسماة «فصائل سورية معارضة» عن أنها ليست أكثر من أداة صغيرة بيد مشغلين إقليميين ودوليين لا حساب عندهم للمصلحة السورية.
تل أبيب أمنت حدودها، وطهران تقاضت أثماناً مذهبية، وموسكو رعت الصفقة القذرة، وتقدم جيش النظام إلى درعا... ورامي مخلوف لم يكذب حين قال ما قاله.