عندما كانت دارجة حياكة الصوف بالبيوت، كانت جدتي تبدأ كنزة في أوائل الربيع ولا تنهيها قبل 3 مواسم صيف، بشرط أن تحافظ على شكل العقدة التي بدأت بها، ولا ترضى إلّا أن تكون وفيّةً للتصميم الأوّلي مهما طالت فترة الحياكة... وزياد الرحباني، اختار عقدة المجتمع اللبناني وما زال يحيك كفنَ الطائفية منذ أكثر من 40 سنة، ونحن لا نريده أن ينتهي حتى لا يحرمنا من كنزاته الفنّية.
يمكن للآلاف والآلاف أن يختلفوا معه في السياسة والمبادئ، ويمكن أن تصل الأمور بينهم إلى تنظيم مباراة مصارعة حرّة علنيّة في ساحة البرج... ولكن لا يختلف إثنان على الجمال والإبداع والفرادة التي أضافها الرحباني إلى المسرح والأغنية والمقطوعة والجاز والمهرجانات والحفلات.
بعد سنتين و4 أشهر طوال وطوال جداً، عاد زياد الرحباني إلى الشاشة في حوار تلفزيوني مع الزميل عماد مرمل ضمن برنامج «حديث الساعة» على شاشة المنار. ولمدّة أكثر من ساعة ونصف، أفقد زياد المحطّة حصريّتها لجمهور واحد، وحوّلها إلى محطّة شاملة تهافت الناس من كل المناطق لمشاهدتها والإنصات إلى ما سيقوله هذا الذي ننتظره مثل مذنّب «هالي».
ما هذه القدرة الغريبة والكاريزما الجماهيرية التي يتمتّع بها زياد الرحباني حتى يتمكّن من تسمير الناس أمام الشاشة هكذا، وما هذه القدرة على اكتساح مواقع التواصل الاجتماعي كافة دون أن تكون له صفحة خاصة على أيٍّ منها.
أثبت في حواره على شاشة المنار أنّ الفيلم الأميركي طويل وطويل للغاية، ولم ينتهِ منذ تاريخ عرض المسرحية عام 1980 وحتى اليوم.
زياد الرحباني فنّان قادر أن يغيب شهراً، سنة، أو حتى سنوات... وقادر أن يكون في بيتٍ مستأجَر، أو فيلا ملك، أو يمكن حتى تتخيتة استديو تسجيل، ولن يحتاج في أيِّ زمان أو مكان إلى النفتالين، لحماية موهبته من عثّ أو فطر المتفنّنين... يملك موهبة تبقى طازجة مهما طال غيابه. في عام 2018 عاد بلسان كاراكتيرات من زمن السبعينات والثمانينات، وبجمل وعبارات عمرها عشرات السنوات، وتمكّن من إسقاطها على أحداث الساعة... في زمن يمتلئ بفنانين وفنانات لا يستطيعون دفعَك إلى تذكّر عنوان أو كلمات أغنية أصدروها منذ 3 ساعات... أعاد زياد إحياءَ رشيد الذي لم نرَه سوى بآذاننا، وسمح لنا أن نتخايل كيف «بيفرد وبيعكف»، ونحن يا غافل إلك الله من كل الفيديوكليبات والمسلسلات الدرامية التي لا تحييها إلّا جيوش الفانز.
لم يكن من السهل في عزّ الحرب الأهلية وفي زمن لغة المتاريس والمحاور أن تكتبَ مسرحيّة وتعرضها في منطقة معيّنة، وتتمكّن من لمّ شمل كل خنادق البلد في صالة واحدة وعلى كراسي متلاصقة، لمشاهدتها والضحك مجتمعين على نفس القفشات في زمن الرشاشات والآليات والمدفعيات... لكن مَن استطاع فعلَ ذلك، قادر في زمن الحرب الأهلية الافتراضية، أن يظهر في برنامج حواري على محطّة معيّنة، ويجذب الناس من كل الطوائف والمناطق لمشاهدته، ويحوّل خبرَ صلحه مع السيدة فيروز وكشفه عن عملٍ قريبٍ بينهما، أو تحضيره لمسرحية جديدة بعنوان «مارتن» إلى حديث السوشل ميديا في زمن اللايكات والريتويتات والشيرات.
وزياد لا يسحر الجمهور فقط، وإنما محاوره أيضاً، فحوّله من محاور سياسي إلى محاور ثقافي وفنّي، قبل أن يحوّله إلى مشاهد يتفاعل ويضحك ويتأثّر بالنكات والمواقف والتصريحات.
تمكّن عماد مرمل بدهائه الإعلامي وشخصيّته الفريدة من كسر شاشة التلفزيون وإلغاء هذا الحاجز بين الاستديو والمشاهد، فتكلّم وضحك وانفعل وسأل بإسم الناس وبلغتهم، دون أن يسمح لذلك بالتأثير سلباً على إعداد حلقته والهدف منها. وضرب عرض الحائط بكل مبادئ الحوارات التلفزيونية والإعلامية، وتخلّى عن رصانته الصحافية المعتادة، ولم يسأل عن بريستيج ووجاهة، وإنما حرص أن يكون بدوره فنّاناً في إجراء حوار مع عبقري من لبنان لا يقتنع بالظهور على الشاشة إلّا مع الناس الذين يفهمونه حتى تصل أفكارُه بوضوح إلى الناس الذين يحبّونه. أوقعنا مرمل بدهاء حواره وسرق انتباهنا بسلاسة حلقته، ومهّد لزياد الرحباني اصطيادَنا بوعوده بأعمال جديدة وأخذنا إلى عالم تجتمع فيه فيروز وزياد، وبصالة كراسيها حمراء تتسمّر لأشهر وسنوات أمام شخصيات وحكايات «زيادية» جديدة.