كشفت الانتخابات التركيّة الأخيرة عن تطوّرين ينمّ تلازمهما عن أحوال تركيا، وأحوال العالم، وبالتالي أحوالنا جميعاً.
أوّل التطوّرين، حلف «حزب العدالة والتنمية» الإسلاميّ و «حزب الحركة القوميّة» شبه الفاشيّة. الحلف، فضلاً عن تلبيته حاجةً انتخابيّة مُلحّة، لبّى حاجة إيديولوجيّة: القوميّ، بالتعريف، اختصاصه القوميّة. الدينيّ، مهما تقومن، وهي حال الإسلام التركيّ، يبقى مشدوداً إلى بُعدٍ يعبر الحدود.
القوميّون، في هذا الحلف، الطرف الأضعف، لكنّه الطرف النامي، فضلاً عن كونه الحاسم: القوميّون هم الذين أمّنوا الفارق الذي يمنح رجب طيّب إردوغان أكثريّة نيابيّة. الثمن سيكون مزيداً من المواقع لهم، ولقوميّتهم ذات التمركز الإثنيّ الحادّ. إذاً، لنتوقّع قوميّة أكثر وكراهية أكبر لأقلّية كبرى كالأكراد وأقلّيّات صغرى كالأرمن.
التطوّر الثاني، أنّ الحلف الإسلاميّ– القوميّ حصد، بين أتراك أوروبا، نسبة تأييد فاقت ما حصــده بين أتـــراك تركـــيا: 65 في المئة في ألــمانيا، و75 في المئة في بلجيكا.
هذا خطــير جدّاً، وإن كان تعــبيراً آخر، يتــجاوز الأتراك، عن صعود الهويّات الضدّيّة.
فالمهاجرون، أقلّه نظريّاً، هم الذين تختلط هويّاتهم وتنكسر حدّة كلّمنها. هم الذين يتحوّلون جسور اتّصال بين بلد المنـــشأ وبلد الهجرة ويطوّرون أشكالاً من الوعي الكونيّ. هم الذين تستدعي مصالحُهم، في بلد الهجرة، إضعاف القوميّين في بلد المنشأ، فكيف وأنّ قوّة القوميّين والإسلاميّين الأتراك تقوّي القوميّين والمناهضين للإسلام في أوروبا.
لقد بات وراءنا ألف برهان على أنّ رجب إردوغان يعقّد العلاقة بأوروبا. شعبويّته تستدعي الأزمات المفتعلة والمضخَّمَة فيما تقضم الليبراليّة والمؤسّسات. هذا يفترض بالمهاجرين الأتراك أن يعملوا على تلافيه من أجل تسهيل حياتهم في المهجر. ما حصل أنّهم أضافوا إليه القوميّين!
مفهومٌ أن يحصل هذا فيما يغدو الردّ على العولمة أقوى من العولمة نفسها، ويتحوّل مكان الهجرة إلى مجرّد «مكان» تُستبعد لغته وثقافته وعاداته، ولا يبقى منها إلاّ مَقتها ومعاداتها. المُقلق أن تمضي هذه الوجهة في طريقها، وأن تتعاظم، في وقت يملي فيه شـــعبويّو أوروبا وقوميّوها وكارهو الغريب فيها أجندتها. سياسات النمسا وإيطاليا، فضلاً عن هنغاريا وبولندا، لا تقول إلاّ ذلك. الحصار الذي تعيشه أنغيلا ميركل يقول ذلك أيضاً. احتــمال انهيار الاتحاد الأوروبيّ، ابتداء باتّفاقيّة شنغن التي تترنّح، يشير إلى ذلك.
تلازم هذين التطوّرين يشير إلى حرب «قبائل» بين الكلّ والكلّ. في داخل تركيا، وفي داخل كلّ بلد، وعلى نطاق العالم. كلّ «قبيلة» تزداد «قبائليّة»، وكلّ احتكاك بين «قبيلتين» يضاعف الكراهية والنفور المتبادلين.
لا ينقص هذا الوعي الهويّاتيّ، القوميّ– الدينيّ المحافظ والكاره، إلا أزمة اقتصاديّة تنذر بها سياسات الحرب التجاريّة الترامبيّة. يحصل هذا قبل أن يُستكمل التغلّب على أزمة 2008 الماليّة.
ما نراه ليس فاشيّة. لكنّ انعقاد ذاك الوعي الظافر على أزمة اقتصاديّة ممكنة، أزمةٍ ستكون بالضرورة كونيّة، يهدّد بانبعاثةٍ فاشيّة كبرى: انبعاثة يتشارك الجميع، كلّ من موقعه، في إحداثها.