تخضع سورية مجدداً لتجربة «المختبر» للصراع أو الاتفاق الأميركي- الروسي. هذا ما يحصل في المعارك الدائرة بين قوات المعارضة التي تتألف من فصائل «الجيش السوري الحر» ومن مقاتلين سوادهم الأعظم من أبناء محافظة درعا وعشائرها والجيش النظامي وحلفائه في الجنوب. الثابت الوحيد في تلك الاختبارات التي على مدى السنوات السبع وبضعة أشهر أن وقودها هو المواطن السوري قتلاً وتهجيراً وتدميراً لممتلكاته ولمستشفياته ومدارسه بدم بارد روسي وعقل إجرامي يتصف به النظام وميليشيات إيران.
وإذا كانت الاتفاقات الروسية- الأميركية الضمنية أدت سابقاً إلى إسقاط حلب، وأنتجت الحرب بالواسطة بين الدولتين الكبريين سقوط الغوطة الشرقية... فإن معارك الجنوب شكلت «المختبر» لتأرجحهما بين التفاهم وبين الصراع عبر القوى العسكرية على الأرض. قبل أسابيع سلّحت واشنطن فصائل الجيش الحر بمدرعات وصواريخ «تاو» المتطورة ليدافعوا بها ضد جيش النظام الذي كان يهيئ مع موسكو لاستعادة السيطرة على درعا وصولاً إلى معبر نصيب مع الأردن. لكن واشنطن بعد أن هددت بالويل والثبور من ضرب إسقاط منطقة خفض التصعيد في الجنوب، عادت وأبلغت قوات المعارضة أنها لن تستطيع فعل شيء لها وأن قرار مقاتلة النظام حيال الهجوم الذي يهيئ له هو قرارها.
بالموازاة، واكبت قاعدة حميميم الروسية حملة النظام الإعلامية بالتناغم مع التسخين العسكري اليومي لتلك الجبهة، متوعدة بأن الجيش النظامي سيستعيد المنطقة الجنوبية لا محالة، لإخراج «جبهة النصرة» منها، فيما تدرك موسكو أن لا «نصرة» في الجنوب، مكررة الحجة نفسها لتبرير إسقاط الاتفاقات على مناطق خفض التصعيد، على رغم أن في الجنوب كانت أميركا طرفاً في خفض التصعيد مع موسكو والأردن السنة الماضية. تعلن حميميم أن خفض التصعيد في الجنوب انتهى وقته. وبعد 24 ساعة، مع وصول مستشار الرئيس الأميركي جون بولتون إلى موسكو حيث التقى فلاديمير بوتين للتحضير للقائه مع دونالد ترامب في 16 تموز (يوليو) المقبل، والذي سيشمل البحث خلاله سورية... تعلن وزارة الدفاع الروسية أن خفض التصعيد في الجنوب السوري باقٍ.
بين الموقفين المتناقضين تهجرت الدفعة الأولى من السوريين جراء بدء حرب الجنوب، (45 ألف نازح حتى الآن) زادوا من قلق الأردن، وخرجت مستشفيات من الخدمة وشاركت الطائرات الروسية في القصف على المنطقة، وحصلت مجازر ضد الأطفال والآمنين آخرها أمس. كمية القصف الهائل الذي حصل من الجو وبالمدفعية لم يمس بقذيفة واحدة المنطقة التي يتمركز فيها مقاتلو «داعش» تحت مسمى «لواء خالد بن الوليد»، القريبة من الحدود مع الجولان السوري المحتل.
«المختبر» السوري كان يفترض أن يعمل هذه المرة على هدي اتفاق أميركي- روسي- إسرائيلي جرى ترتيبه تحت عنوان امتحان قدرة موسكو على إخراج إيران وميليشياتها من المنطقة الجنوبية، وقضى بأن يستعيدها الجيش السوري حتى الحدود الأردنية، على أن تنتشر الشرطة الروسية في المنطقة لضمان الأمن فيها وعدم توسع الميليشيات الإيرانية، ونقل مقاتلي المعارضة إلى إدلب. فجأة ظهر قادة ومقاتلو «لواء ذو الفقار» الذي أنشأته طهران قبل 4 سنوات في بلدة بصر الحرير على الطريق نحو درعا، معلنين احتلالها. ابتدع الإعلام الأميركي والإسرائيلي إزاء هذا المشهد الحجة القائلة إن ميليشيات إيران، التي كانت واشنطن وتل أبيب اشترطتا إبعادها عن الحدود مع الجولان المحتل 80 كيلومتراً، بقيت بعيدة من تلك الحدود أكثر من المسافة المطلوبة. وطالما الأمر كذلك فإنه لا يمس بأمن إسرائيل، فيما الحقيقة أن المسافة التي كانت فيها تلك الميليشيات موجودة لا تتجاوز الـ30 كيلومتراً. أما القصف الإسرائيلي لقواعد إيران و «حزب الله» في العمق السوري وآخرها مطار دمشق الثلثاء حيث دمرت أسلحة نقلتها طائرة إيرانية، فهو لا يخضع للاتفاقات الضمنية المثلثة.
من التفسيرات للتناقضات في السلوكين الروسي والأميركي أن زيارة بولتون موسكو كانت مناسبة لمراجعة التفاهم على مصير المنطقة الجنوبية في ضوء التفاهمات الأوسع المنتظرة بين الجانبين، وأن وعد موسكو إخراج الميليشيات الإيرانية من الجنوب تحدته طهران بظهور «لواء ذو الفقار». فإما أن طهران تعاكس إرادة الحليف الروسي عندما يتفاهم مع واشنطن وتل أبيب على حسابها، بعد أن اشترطت انسحاباً أميركياً من قاعدة التنف على المثلث السوري- العراقي- الأردني من دون الاستجابة لمطلبها، أو أن موسكو تتحايل على التزامها في انتظار الثمن الذي تأمله، أو أنها عاجزة عن الوفاء به...
«المختبر» السوري إضافة إلى تجارب الأسلحة المختلفة فيه، الذكية والغبية، عبر الأذرع والأدوات المتعددة بات وعاءً لكل أنواع الفوضى والقتل والتدمير الأعمى، لخدمة مناورات الكبار.