بأي مقياس نستخدم مفهوم الحوار الحضاري؟
وكيف يستقر الاجتماع الإنساني بكل ما فيه من تناقض بين ما توصف به الأمم من خلال واقع مشكلاتها التي تجعل من بعضها أمماً متقدمة وأمماً متخلفة.
وما أشبه هذا التناقض من الحوار في عالم يفتقر إلى تكافؤ - الحضارات - لتلك الحكاية التي يرويها رائد من رواد الفكر العربي عن الأعمى والمقعد الذي شلت رجلاه فلا تقويان على حمله فالتقى مع أعمى سليم الرجلين فهو قادر على المشي لكنه لا يرى الطريق فاتفقا على أن يجلس المقعد على كتف الأعمى فيكون عليه أن يرشده إلى الطريق وعلى الأعمى أن يمشي برجليه إلى حيث يريدان.
وعندي أن التأمل في قياس الدرجات الحضارية من منظور غربي نفسه بحسب فلسفاته الجديدة فإن الغرب الأعمى يجب أن يجمل الشرق - المقعد على كتفيه - لكي يتكامل لهما طريق السير نحو حضارة عالمية لا شرقية ولا غربية.
غير أن هذه القصة لن تحل مشكلة البحث في وظائف الحوار الحضاري وشروطه طالما أن النكسة الحضارية التي نجتازها اليوم عالقة بعيون – الغرب - الذي لا يريد الاعتراف بعمائه فلا يعرف بأي اتجاه يسير كما هي عالقة بأقدام الشرق الذي لا يريد الاعتراف بقعوده فلا يعرف بأي قدمين سليمتين يسير , كذلك تشتد حلقات الأزمة الحضارية الطويلة في أعمى يظن أنه البصير وفي كسيح يظن أنه الفارس الذي تطوى له الأرض من غير فرس.
وبذلك تبقى مأساة البحث عن عالمية الحضارة الإنسانية يائسة نواحة لا تريد أن تتزحزح خطوة نحو أمل يشرق من أربع جهاتها ولو بعد حين.
وأراني ألفت إلى هذه المعضلة من معضلات الحوار الحضاري لأخرج من الضيق الذي ضاق به هذا الحوار الظالم والمظلوم في أبشع صورة يجري فيها الحوار بين الضحية والجلاد في مشهد تغدو فيه مقولات حوار الحضارات أو صدامها وجهين لسياسة أميركية واحدة.
وإذا كان أمر هذا الحوار – الضحية - كذلك وجب البحث هذه المرة لا عن شرق هنا وغرب هناك وإنما عن الشروط التي نقيس بها وحدة الحضارة والدين والإنسان, وإنها لمفارقة عجيبة أن تعقد مؤتمرات الحوار الحضاري برعاية الأمم المتحدة فلا يستوقفها شيء من محنة هذا الحوار في ظل عولمة – الفساد - وكوارث الفوضى الخلاقة وعواصف الاحتلال الممتد باسم الارتفاع بمستوى شعوبنا إلى مستواه الحضاري فيرغمها مقهورة أن تقتدي – بصورته - على أرض ليست هي أرضه وسماء ليست سماءه وكل ما في سياسات هذا الاحتلال البغيض جشع جائع للنفط أو متعطش للدماء فيتم الحوار إذاً تحت دوي القتل العشوائي وطبول الحرب الاستباقية.
إن الحوار الحضاري بين ما هو كائن علينا من أقصى فلسطين إلى أدنى العراق وما ينبغي أن يكون, يقتضي البحث عن الوجه الآخر - للغرب الثقافي - عن ذلك الوجه الذي تمرد على قرارات قادته السياسيين فتظاهر تنديداً واحتجاجاً غاضباً ضد الاحتلال الأعمى عن ذلك الوجه الذي ينادي بكل أطيافه الدينية والثقافية والسياسية برد القدس إلى فلسطين ورد الجولان إلى سورية ورد الحقوق المغتصبة إلى أصحابها سلام الأتقياء وسلام من غير ظلم هو أول ما يجب أن تتعلق به حوارات السلام وحوار من غير خوف أو تخويف هو أول ما يجب أن تتعلق شروط الحوار بين الحضارات.
ولا يكون ذلك إلا بتصحيح لغة المصطلحات نفسها لتتجه العقول الباحثة عن أزمة الحضارة إلى حقائق الاعتراف المسؤول بأن أزمة الانكماش الحضاري الراهنة هي أزمة القيم المستباحة, لأني أخشى أن يكون المسيطر على برامج الحوار الحضاري ومؤسساته هو المخاطرة بآخر ما تبقى من رصيدنا الحضاري من هوية وقيم وأخلاق.
ولئن كان المرتجى من حوار الحضارات اكتشاف المنابع الروحية والثقافية والمادية للسلام العالمي فإن هذا السلام سيظل مرهوناً باجتراح معجزة التوافق العالمي على صياغة إنسانية للقيم العليا المحسومة بضبط المسافة بين بساتين التنوع الإنساني الخلاق وبين حدائق خصوصياته المفتوحة على تناغم الأخلاق المشتركة بين حضارات العالم جميعاً.