كل شيء معروف وكل شيء مجهول عمّا تُسمّى «صفقة القرن». لكن أغرب ما فيها أنها تطمح في السرّ لفبركة حلّ ينبغي أن يصبح علنياً وواضحاً وشفافاً ليكون مقبولاً وعملياً وقابلاً للتطبيق. ومع أن دونالد ترامب أول من طرح اسمها وفكرتها، وهو رجل صفقات قبل أن يكون رجل البيت الأبيض، فإنه يعرف بالخبرة وجوب اتّباع مبدأين: إن الصفقة تعاقدٌ بين طرفين يلبي لكلٍّ منهما توقّعاته، وأن الحفاظ على السرّية عنصر مهم لإنجاح الصفقة. لكن الحال المعنية هنا هي تعاقدُ بين ترامب وإسرائيل وبموجبه يصوغ الطرفان صكّاً لـ «شرعنة» السطو على حقوق الطرف الثالث، أي الفلسطينيين. أما السرّية فهي لإخفاء عشرات القوانين والأعراف الدولية التي ستُداس وتُحتقر، ولتمرير أحطّ الضغوط وأبشعها على شعب فلسطيني بات مدركاً أن محن الشعوب الأخرى المجاورة جعلته ومحنته وحيدين ومستَفرَدَين في مواجهة خبيرَين نيويوركيين في تجارة العقارات، جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات، تقتصر خبرتهما السياسية على ما يتلقيانه من «مشاريع حلول» يرسلها مكتب بنيامين نتانياهو و «مشورات» رون ديرمر سفيره في واشنطن، وكلّها مستنبطة من أفكار زمرة اليمين المتطرّف في حكومته، وإذا ما فاتهم أي عنصر في تركيبة السمّ التي يعدّونها فإن السفير الأميركي الموتور ديفيد فريدمان يبادر إلى إضافته.
كانوا يسمّون ذلك «خطة سلام» في اللقاءات مع الزعماء العرب ومع الرئيس الفلسطيني، أما مصطلح «صفقة القرن» فانتشر خصوصاً منذ اللقاء الأول بين ترامب ونتانياهو (15/02/2017)، لأنهما اتفقا على أن الأمر لا يتعلّق أبداً بـ «سلام» بل بـ «دفن القضية الفلسطينية» وشطب كلمة «احتلال» لتغدو القضية مجرّد نزاعٍ على أراضٍ/ عقارات، يمكن تسويته بقواعد بزنسية، وهذا من اختصاص كوشنير- غرينبلات. وأي تسوية يتوصّلان إليها ستحظى باعتراف فوري من ترامب وإدارته لمدّها بزخم دولي. وبالنظر إلى تصميم الرئيس الأميركي وحماسته، وإلى أن أبرز مموّلي حملته الانتخابية وجميع المهتمّين بالملف هم يهود أو أصدقاء لإسرائيل، فقد اعتبر نتانياهو أن فكرة الصفقة صلبة وواعدة إلى الحدّ الذي شجعه على وضع ملف آخر على المسار نفسه، فدعا مجلس وزرائه إلى الانعقاد في الجولان (17/04/2017) ليعلن من هناك أن «الجولان جزء من إسرائيل إلى الأبد» بداعي أن خمسين عاماً من الاستغلال الإسرائيلي للجولان كافية لنزع صفة «المحتلّ» عنه. ما يعني بالنسبة إليه أن هذا ينسحب أيضاً على الأراضي الفلسطينية، بدليل ما سلبته إسرائيل من أراضي 1948 ثم أراضي 1967.
لم يُفصَح عن أيٍّ من بنود «الصفقة» أمام محمود عباس عندما زار واشنطن (03/05/2017)، أولاً لأن النسخة الأولى منها لم تكن جاهزة بعد، ثم لأن المناسبة كانت لإحاطته بحفاوة في البيت الأبيض باعتباره «زبوناً» مهماً لا بدّ من تدليله، تسهيلاً لـ «الصفقة». سمع الرئيس الفلسطيني تكراراً للكلام العام الذي قاله ترامب عندما اتصل به هاتفياً (وفقاً لبيان البيت الأبيض 11/03/2017): تحقيق السلام ممكن. حان الوقت لصفقة تعطي سلاماً للإسرائيليين والفلسطينيين. أي اتفاق سلام يجب أن يكون نتيجة مفاوضات مباشرة بين الطرفين. الولايات المتحدة لا يمكن أن تفرض الحل على أي طرف...». كان متوقّعاً من عباس ألا ينسى حفاوة الاستقبال عندما تبدأ المحادثات الفعلية مع صهر الرئيس ومبعوثه الخاص. لكن اللقاء الأول مع هذا الثنائي كان صادماً، وفي 24/06/2017 تحدّثت «يديعوت أحرونوت» عن «إحباط فلسطيني» من هذا اللقاء إذ أن كوشنير لم يشر إلى استئناف المفاوضات أو إلى وقف الاستيطان، بل إلى ضرورة التوقف عن «التحريض» ضد إسرائيل وعن دفع مستحقّات الأسرى الفلسطينيين، وبالتالي انتقل تاجر العقارات من «تدليل الزبون» إلى إبلاغه لائحة الشروط ليكون «طرفاً» في «صفقة»، مع الشروع بترهيبه بأن هذه «الصفقة» ستُبرم بمشاركته أو على الرغم منه.
مضى عام على «الصفقة» وهي مجرّد تسريبات تُنثر هنا وهناك سواء لـ «كيّ الوعي» الفلسطيني (والعربي) أو كـ «بالونات اختبار» لأفكار توصف بأنها غير اعتيادية أو خارجة عن الإطار التقليدي، ترفدها تصريحات لنتانياهو تلمّح إلى أن ثمة أطرافاً عربية باتت منخرطة سرّاً في «الصفقة»، ولم يؤكّد ذلك أي من المعنيين رسمياً، وإذا كان أفضوا علناً ببعض الآراء إلا أنها بقيت عامة وبعيدة عن التداول في «بيع العقارات» أو التصرّف بحقوق شعب عربي. لكن، ماذا عنى ذلك فعلياً؟ رأى نتانياهو أن يصطنع جوّاً يوحي بأن «الصفقة» وُضعت على مسارها بدليل تجد فئة التطبيع المصري والسعي إلى «تحالف إقليمي ضد إيران». لكن ما لم يقله مباشرة نقله عنه تاجرا العقارات كوشنير وغرينبلات، ومنه أن الفلسطينيين ينظرون إلى قضيتهم برؤى قديمة قد تُقبل نظرياً ولا تُطبَّق عملياً، فما سُلب منهم فقدوه وما تنازلوا عنه قسراً أو «من أجل السلام» لم يعدْ لهم ولا سبيل لاسترجاعه بالعمل المسلح (أو «الإرهاب» كتسمية عصرية لمقاومة الاحتلال) ولا بقنوات الشرعية الدولية (المغلقة منذ سبعين عاماً)، وبالتالي فليس متاحاً لهم سوى الشروط الإسرائيلية التي يعرضانها عليهم، وفي ظلّها تُجرى المفاوضات ويُنجز «اتفاق سلام».
لا شك أن تأجيل إعلان «الصفقة» مرّات عدّة عكس صعوبة إقحام الرغبات الإسرائيلية في توليفة سلام. كان يقال في واشنطن إن المشكلة في الرفض الفلسطيني، أي أنها ليست في ما يُعرض عليهم. كان يقال أيضاً لكن بعيداً عن الإعلام إن المشكلة في صعوبة إرضاء إسرائيل وإقناعها بتقديم تنازلات. وقد عُرف باكراً أن كوشنير أقبل على التحادث مع الفلسطينيين بمجموعة لاءات: لا حديث عن احتلال، لا إدانة للاستيطان، لا اعتبار خاصاً للقدس، لا لـ «حلّ الدولتَين»، ولا ملف للاجئين و «حق العودة» على الطاولة... ومن هذا المنطلق كان مستعداً للبحث في «السلام» متوقّعاً من الجانب الفلسطيني أن يُجامل صهر الرئيس ولا «يزعّله». وقد افترضت لاءاته مسبقاً أن مفاوضيه الفلسطينيين لم تعد لديهم قضية يدافعون عنها ولا حقوق يطالبون بها، لكن بإمكانهم الحديث في أي قضية أخرى إذا شاؤوا أو ربطه بخبراء فلسطينيين في تجارة العقارات ليتفاهم معهم.
كلّما تأخر إعلان «الصفقة» يسود اعتقاد بأن السمسار الأميركي يحاول تحسين بنودها فإذا بها تسوء وتزداد اختلالاً، فيتبيّن أن إسرائيل تستخدمها للتعاقد مع نفسها وليس مع الفلسطينيين وتقنع ترامب بأن المضي بـ «الصفقة» كأنها سالكة هو الأسلوب الأنجع، فما لا يقبله العرب طوعاً يقبلونه قسراً مع جرعة من التكشير الأميركي عن الأنياب. وبهذا المفهوم السقيم صدر قرارا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. كان ذلك بمثابة عبوة ناسفة خرّبت فوراً أي مفاوضات وأي سلام، كما أطاحت «حل الدولتَين». هنا تذكّر خبيرا العقارات أن هناك شيئاً اسمه وزارة خارجية أميركية فأوعزا بأن ينبري عدد من الديبلوماسيين لإطلاق «تطمينات» تخديرية من نوع أن الوضع النهائي للقدس يُحدّد في المفاوضات وأن الإدارة تعد للإعلان قريباُ عن «خطة سلام متوازنة»، بمعنى أنها تدرك أن قرار القدس لم يضرب كل توازن فحسب، بل أربك حتى الأطراف العربية التي لا تعارض «الصفقة» مبدئياً لكنها تريد تسوية شاملة تضمن سلاماً دائماً للفلسطينيين وللمنطقة.
لكن «التوازن» هو آخر ما يفكّر فيه سماسرة «الصفقة»، خصوصاً أنهم باشروها بنسيان كامل للقوانين الدولية ومبادئ العدل وحقوق الشعب، فهم مواظبون على تنقيحها لتكون ثمرة ترهيب وترغيب ليصار إلى إنضاجها بأفضل ما أنتج الجشع التجاري من خدع. وجاءت التسريبات الأخيرة كترجمة لما سبق من شروط وأهمها تكريس الاستيطان وإدامة الاحتلال للقدس واقتراح دولة فلسطينية أقرب إلى «كيان تحت الاحتلال» منها إلى «دولة». مع أن مشاريع التنمية في غزة لازمة وضرورية لكنها طُرحت وكأن نتانياهو وترامب عازمان على التصالح مع «حماس» والتعامل معها، فقط لـ «معاقبة» محمود عباس على عمر أمضاه سعياً إلى التفاوض والسلام، فإذا به يُكافأ لا بإنصاف شعبه بل بالبحث عن بديل منه.