عنوانُ الكتابِ («كلماتٌ عابرةٌ) يخالِفُ مضمونَه (الثقافةُ الباقيةُ). أرادَ رمزي جريج، الإنسانُ والمحامي والوزير، أن يشارِكَ مُحبّيه تجربتَه في المجتمعِ والوطنِ والحياة. أدركَ أنَّ الثقافةَ هي الكلمةُ بصورتِها وأناقتِها وبهائِها وتأثيرِها، وتنبَّه إلى أن النِسيانَ حاسّةٌ قائمةٌ تُصفّي الذاكرةَ من زوائدِ اللحظةِ فتجعلَ الإنسانَ ممزّقًا بين ما اكتَنَز وما أَغفَل، فاستقرَّ على «كلماتٍ عابرة».
ورغمَ أنَّ الكاتبَ تَقصَدَّ اختيارَ مشاهدَ حياتيّةٍ ومهنيّةٍ وسياسيّةٍ خَشيةَ أن يُصبحَ المؤلَّفُ موسوعةً، أَخفقَ في حجبِ مكنوناتِه. كلُّ فكرةٍ تَرشحُ أخلاقًا وقيمًا وتَفضحُ معاناتِه الوِجدانيّةِ (بول ڤيرلين) وقلقَه الوجوديَّ (شارل بودلير) وشموليّةَ معرفتِه (بول ڤاليري) وشَكِّه المعرِفيَّ (بلايز باسكال) ومَنطقَه الاستطراديَّ (رينه ديكارت) وحَيْرتَه السياسيّةَ...
في فصولِ الكتابِ الحياتيّةِ والمهنيّة، بدا طليقًا، فيما اعتَصَم بالحذرِ ودقّةِ المقاربةِ في الصفحاتِ السياسيّةِ حِرصًا على الوفاءِ والصداقةِ والحيادِ لأنَّ أصدقاءَه ليسوا دائمًا متّفقين، ولأنَّ حياتَه الغنيَةَ لا تُختصَرُ بسنواتٍ ثلاثٍ تقريبًا في وزارةِ الإعلام. لكنَّ رمزي يغادرُ الحذرَ حين يتعلّقُ الأمرُ بالكرامةِ وبشخصِ والدِه خليل، القاضي المميّزِ والممتاز.
من خلالِ كتابِ رمزي جريج، يعيش القارئُ لبنانَ العلمِ والثقافةِ والرقيِّ والحضارة، ويحيا لبنانَ الكبيرَ بكلِّ معانيه. كتابُه دليلٌ حضاريٌّ لواقعِ المجتمعِ اللبنانيّ والعلاقاتِ العائليّة والأصولِ المهنيّة في المحاماةِ والقضاءِ في العقودِ السابقةِ حين كانت المدرسةُ تربيةً والجامعةُ ثقافةً والمحاماةُ مرافعةً والقضاءُ مُهابًا والدينُ تسامحًا.
لذا، تُستحسنُ قراءةُ «كلماتٍ عابرة» من دون العبورِ إلى الحاضرِ لئلّا يجتاحَنا قرفٌ وإحباطٌ وقُنوط. نكادُ نكون شعبًا يُفضِّل ماضيه على مستقبلِه، علمًا أنَّ ماضينا ليس خاليًا من الشوائب. والحقيقةُ أنّنا نُفضّل رجالاتِ الماضي على أشخاصِ الحاضر، وأُلفةَ الماضي على عداواتِ الحاضر، وطوائفَ الماضي على مذاهبَ الحاضر، ونهضةَ الماضي على انحطاطِ الحاضِر، وقَصْرَ الماضي على قصورِ الحاضر، وشرفَ الماضي على عارِ الحاضر، بل فسادَ الماضي على فسادِ الحاضر. حين يَشعُر المواطنُ بالغربةِ في وطنِه يَسهُل اغترابُه. فنحن مغتربون وإنْ مقيمين...
من هذه الزاويةِ يُشكّلُ كتابُ رمزي جريج مَحضرَ إدانةٍ للبنانَ بعدَ الحربِ والوصايةِ والاحتلال. إدانةٌ للبنانَ الرسالةِ وللمِهنِ الرسالةِ: من المحاماةِ مرورًا بالقضاءِ وصولًا الى السياسة. كشفَ الوزيرُ جريج عِللَ المجتمعِ الحاليّ من خلالِ إضاءتِه على صِحّةِ المجتمعِ السابق. قالها بأساليبَ عدّة: الإيحاءُ والتوريةُ والخاطِرةُ والقرينةُ والمقارَنةُ والتوصيةُ وبالأمرِ أحيانًا.
في «صُحبةِ الأيّام»، وهو الجُزءُ الأوّل، حاول الكاتبُ المحامي أن يترافعَ عن ذاتِه من الولادةِ إلى هذه المرحلةِ، حيثُ تَوّجَ مسيرةَ حياتِه وزيرًا للإعلامِ بعدما كرّسَها نقيبًا للمحامين. وبين الإثنين عَرَضَ «الأسبابَ الموجِبةَ» لمسيرتِه في كنفِ أبوين زرعا فيه أرزةَ القيمِ والإيمان، وفي عَمادةِ عائلةٍ مع الرفيقةِ منى، فأنشأا عائلةً من خليل ولميا اللذَين اختارا حياتَهما الجميلةَ في مروجِ الفنِّ والثقافةِ بعيدًا عن همومِ المحاماةِ ولَجاجَةِ الزبائنِ وترّقبِ الأحكامِ القضائيّة.
وخِلافًا لما يوحي الرجلُ، ليست حياتُه حوضَ ماءٍ هادئًا، بل مجموعةَ محطّات نضاليّةٍ قادَها عزمٌ مثابرٌ في سبيلِ إثباتِ الذاتِ والنجاحِ وتخزينِ المعرفِة. إن النضالَ في سبيلِ المعرفةِ هو معيارُ حضارةِ الإنسانِ وليس النضالُ من أجلِ السيطرةِ العبثيّةِ العابرة.
في «وجوهٍ واسماء»، وهو الـجُـزءُ الثاني، حاول الكاتبُ المحامي أنْ «يرافعَ» عن الآخَرين، أصدقاءَ وزملاءَ وشخصيّاتٍ في مناسباتٍ مختلفةٍ تكريمًا أو توديعًا أو ترحيبًا. في بعضِ هذه الخُطَبِ التكريميّةِ تدفَّقت الكلماتُ من عَلٍ فانسابَت، وفي أخرى استُخرِجَت من الجوفِ فتثاءبت. ورغمَ أنَّ كلماتِ المناسباتِ تَتَّسِمُ لياقةً بالمديحِ، وُفِّقَ رمزي في تحاشي المغالاةِ والتزامِ الموضوعيّةِ، فبرأ الغالبيّةَ وأبقى آخَرينَ قيدَ التحقيق. فاستَحقَّ هو التكريم.
وفي الفصول الأخرى: «الحرّيةُ والإعلام»، «في رحابِ المحاماة»، «دفاعًا عن استقلالِ القضاء» و» وأبحاثٌ قانونيّة»، كشفَ رمزي جريج عن جُعبتِه القانونيّةِ والدستوريّةِ وتجلّى بارعًا في الدفاعِ وتقديمِ الحُججِ والقرائنَ والاجتهاداتِ في سبيلِ إعلامٍ وطنيٍّ شُجاعٍ ومسؤول، ومحاماةٍ تعيدُ مجدَ بيروت، وقضاءٍ يُحيي مبادئَ العدلِ والنزاهةِ، ومؤسساتٍ تَحمي دولةَ القانون وسَطَ اعتلالِ النظامِ وسقوطِ المعاييرِ واختلاطِ الصلاحيّات. وإنِ اختَصرنا مضمونَ هذه الفصولِ لَقُلنا إنَّ أولوياتِ رمزي هي: الإنسانُ والحرّيةُ والديمقراطيّة.
كتاب رمزي جريج مفيدٌ وضروريٌ وجذّاب. يؤرّخُ من دونِ أن يكونَ كتابَ تاريخٍ، يَطرحُ القضايا الوطنيّةَ من دونِ أن يكونَ كتابًا سياسيًّا، يَفوحُ أدبًا وشِعرًا من دونِ أن يكونَ قِصّةً أو ديوانًا.
هو مزيجٌ منسجمٌ نَظَمهُ رمزي جريج على قياسِ التجربةِ والمشاعر ليكونَ شاهدًا على حقبةٍ دقيقةٍ من تاريخِ لبنان. لذا، يا أخي رمزي، لا أنتَ عابرٌ ولا كلماتُك.