لأن اكثرية مثقفيهم تنتمي الى الطائفة الشيعية. هذا الجواب المباشر والمختصر على سؤال العنوان، ورغم ارتكازه على عدد من الشواهد والأدلة، إلا أنه يبقى في سياق التفسير الهوياتي (الثقافوي) للظواهر الاجتماعية والسياسية.
العاطفة هذه لا تقتصر على المثقفين من بين الشيوعيين بل تمتد الى شرائح عريضة من الجمهور اليساري. وجلي اننا نقصر كلامنا هنا على هل المشرق العربي من الشيوعيين، مع الادراك ان مشاعر التعاطف تنتشر ايضا بين الكثير من الشيوعيين العرب في شمال افريقيا والمغرب العربي.
ولا يندر ان يجد قارئ كتابات الشيوعيين العرب تقريظا واضحا للإمام علي لكن من زاوية تختلف اختلافا بيّنا عن الزاوية التي يصدر عنها المديح الذي يتلقاه من المصادر الدينية، الشيعية والسنية سواء بسواء. العدالة والانحياز الى البسطاء في صراعهم مع ارستقراطية القبائل التي اكتشفت اهمية ملكية الاراضي الزراعية بعدما استفادت من غنائم الفتوحات وقبلها من أرباح تجارة القوافل.
هذا ما نلمسه من دون مواربة في “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية” لحسين مروة، وفي “فصول من تاريخ الإسلام السياسي” لهادي العلوي، ناهيك عن قصيدة مظفر النواب الشهيرة “وتريات ليلية” (أنبيك علياً…). هذه الامثلة تدرج آلية ترقي علي بن أبي طالب وصولا الى منصب الخليفة ضمن الصراع الذي نشأ بين بني هاشم الفقراء المستندين الى النبوة التي نزلت على واحد منهم، والى تفسيرهم العدالتي للدعوة المحمدية، وبين بني أمية الذين سادوا في الجاهلية وأدركوا خطر السلطة والثروة التي جلبتها الفتوحات الأولى وقرروا، من خلال عثمان بن عفان أولا وبواسطة معاوية بن أبي سفيان ثانيا، عدم ترك “الأمر” (بحسب ما كان يشار الى الخلافة والسلطة في ذلك الزمان) لبني هاشم. الصراع القبلي انقلب طبقيا على ما يرى حسين مروة، على الرغم من أنه لا يقدم تفسيرا وافيا للقفزة التي حصلت من الزعامة القبلية القائمة على الموقع ضمن الجماعة وعلى السيطرة على عائدات التجارة، الى الارستقراطية الاقطاعية التي يفترض انها ظهرت واكتسبت “وعيها بذاتها” خلال أعوام الخلافة الراشدة القليلة. في حين ان تطور التشكيلات الاجتماعية وتحولها يستغرق اجيالا وأجيال.
في المصادر التراثية، روايات كثيرة من الفترة التي سبقت الفتنة الكبرى تتناول المنافسة على ملكيات الأراضي في البلدان المفتوحة خصوصا في العراق الذي سيشهد حسم الصراع بين علي وبين معاوية لمصلحة الاخير، اي لمصلحة الطبقة الاقطاعية الصاعدة التي تريد دمج ريع الفتوحات مع أرباح التجارة والسيطرة على الأراضي الزراعية الأخصب.
بالعودة الى كتابنا الشيوعيين المعاصرين، من التبسيط المُخِلّ ومن الاساءة بل والسطحية، حصر صدور اعجابهم بعلي بن أبي طالب بانتمائهم الى الطائفة الشيعية. التبسيط هذا لا يهين ذكاء هؤلاء الكتاب وقرائهم فحسب، بل يعمم التفسير الهوياتي – الثقافوي لظواهر مركبة ومعقدة مثل الحركة الشيوعية ويعطيه اهمية لا يستحقها او على الاقل، يمنح هذا التفسير شمولية وسعة هو دونهما بكثير.
ويظهر واضحاً أن ثمة مشكلات عميقة بين المسلمين تتعلق بتوزيع الثروات على الفاتحين. يؤدي “القراء” هنا دور “الطليعة” الحاملة لخلاصة البعد الإيديولوجي المساواتي في الاسلام، اضافة الى ما يؤديه الجنود الفرس السابقون خصوصا من “الفرقة الحمراء” الذين تجمعوا كأيد عاملة رخيصة في الكوفة والبصرة شكلت أرضية قابلة للدعوى التي أطلقها سلمان الفارسي والقائمة على عدل الإسلام بين العرب والعجم والموالي وحب الامام علي وآل البيت الخ.. (راجع على سبيل المثال دراسة لوي ماسينيون عن سلمان الفارسي التي ضمها عبد الرحمن بدوي الى كتابه “شخصيات قلقة في الإسلام”).
تفتح هذه المقاربة الباب واسعاً لفهم بدايات انتشار التشيع بين الموالي المتعطشين الى العدالة ولماذا تمازج العرفان ثم التصوف مع الاعتراض على السلطة السياسية والدينية المركزية والدور المحوري الذي سيكتسبه سلمان الفارسي في العديد من المذاهب المتفرعة عن التشيع وخصوصا المذهب الدرزي. لكن هذا حديث آخر.
بالعودة الى كتابنا الشيوعيين المعاصرين، من التبسيط المُخِلّ ومن الاساءة بل والسطحية، حصر صدور اعجابهم بعلي بن أبي طالب بانتمائهم الى الطائفة الشيعية. التبسيط هذا لا يهين ذكاء هؤلاء الكتاب وقرائهم فحسب، بل يعمم التفسير الهوياتي – الثقافوي لظواهر مركبة ومعقدة مثل الحركة الشيوعية ويعطيه اهمية لا يستحقها او على الاقل، يمنح هذا التفسير شمولية وسعة هو دونهما بكثير.
بيد أن تفصيلاً ضرورياً ينبغي عدم إغفاله ههنا: واحد من الركائز التي نهضت عليها الاحزاب العلمانية، بل الجمعيات السياسية التي راحت تتشكل في الاعوام الاخيرة من عمر السلطنة العثمانية في المشرق العربي، هي ركيزة الازمة التي مثلها سقوط نظام الملل العثماني ومحاولة اعتماد القومية التركية والدين الإسلامي كهوية جديدة للسلطنة ما دفع الأقليات العرقية والدينية للبحث المحموم عن بدائل تضمن بها وجودها ومن بين البدائل التي اقترحت كانت الايديولوجيات القومية واليسارية التي توفر للأقليات المساواة مع أبناء الأكثرية العربية السنية. وفي ذلك تشابه عميق مع ما كان أبناء الشعوب التي انهارت دولها السابقة أمام الفتوحات العربية، تبحث عنه في إسلام قائم على العدالة والمساواة رأت أن الإمام عليّاً يمثله، في حين تحرمها دولة “المُلك العضوض” الاموية منه.
يضاف الى ذلك، ان الماركسيين العرب كانوا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي يسعون الى تأصيل محلي، إذا جاز القول، لمقولات الصراع الطبقي والتحولات الاجتماعية وعموما للتفسير المادي للتاريخ، بالتزامن مع عودة للاهتمام بالتراث كمصدر لفهم الحاضر خصوصا بعد هزيمة 1967 وإفلاس القومية العربية التقليدية.
هكذا ظهرت مؤلفات لماركسيين تهتم ببابك الخرّمي وثورته الطويلة على الحكم العباسي وبثورة الزنج وقائدها علي بن محمد وحركة القرامطة ودولتهم في البحرين والأحساء وبالخوارج، وما يدخل في هذا الباب من علامات تطلب العدالة في التاريخ العربي – الإسلامي، على اعتبار ان العدالة هي أس النظرية الاشتراكية الأعمق.
غني عن البيان ان المؤلفين الماركسيين لهذه الأسفار لم يكونوا من الشيعة حصرا ولا من المسيحيين العرب فقط بل من كل الانتماءات العرقية والدينية في المشرق بقدر ما عم الفكر الماركسي والانتماء الشيوعي هذه الانحاء.
ولا تزعم هذه السطور تقديم تفسير جامع مانع لعلاقة الشيوعيين العرب بالتراث ولا لموقفهم من بعض شخصياته البارزة، بل إشارة متواضعة الى المسائل هذه وافتتاح لنقاش، لا أكثر.
موقع درج
حسام عيتاني