ليس مثيرا للاستغراب ما يحصل هذه الأيام في العراق من تطويع للدستور والقوانين لخدمة أغراض السياسيين في مفصل الانتخابات التي حصلت أخيرا، والتي فاقت ما سبقتها من الخروقات، والتزوير الذي هو السمة البارزة في هذه العملية البعيدة عن الضوابط المعروفة في جميع انتخابات العالم الديمقراطي، ذلك أن الهدف هو بقاء ذات الرؤوس والهياكل الحزبية التي تحكمت بمسيرة الحكم منذ عام 2003 وإلى حدّ الآن.
فقد كُتب دستور البلاد المحتلة عام 2005 وفق لجنة من الأحزاب، سنية وشيعية وكردية، بإشراف الخبير الأميركي اليهودي نوح فيلدمان، ولا اعتراض على يهوديته لكنه كان صهيونيا اشتغل بوظيفته هذه في أفغانستان الجديدة قبل العراق، وبعدها أشرف على الدستور المصري ثم التونسي، وهو الذي يعتقد بمكر أن فوز الإسلاميين في العالم العربي انتصار للديمقراطية، وقال إن “الإعلان الدستوري لمحمد مرسي إنقاذ للديمقراطية الوليدة في مصر”.
الدستور العراقي الذي صنعه فيلدمان، وأوكلت للخبراء العراقيين كتابة تفصيلاته حسبما أملته حاجات الشراكة بين الأكراد والشيعة تم تبطينه بالمتفجرات الطائفية والعرقية، ولم يكتب لصالح بناء الدولة المدنية المفترض أن تكون متوافقة مع الديمقراطيات الغربية والأميركية، وحين عُرضت مسودة ذلك الدستور على الاستفتاء الشعبي رفضته أكثر من أربع محافظات عراقية من العرب السنة، ولو كان هناك احترام لإرادة الشعب لأعيد النظر فيه أو تمّ تأجيله لبعض الوقت، لكن الأميركان وممثلهم السفير زلماي خليل زادة لم يقبلوا التأجيل، وقالوا بأنهم تعرضوا إلى ضغط المرجعية الشيعية التي كانت تعتقد بضرورة التعجيل باستلام العراقيين لشؤونهم وعدم بقاء النظام بلا دولة، وهو تبرير منطقي لكن ما حصل أن الاحتلال الأميركي استمر لست سنوات لاحقة لقيام ذلك الدستور.
كما أن الزعامات من المحافظات السنية الرافضة بررت قبولها به بتأسيس قواعد العملية السياسية التي أنتجت كل الأزمات التي عاشها العراق منذ ذلك الوقت وإلى حدّ الآن، واعتقد هؤلاء أن خيار رفضه سيغلق أمامهم طريق وصولهم إلى السلطة، وقبلوا التخلي عن هوية العراق العربي وصادقوا على اعتباره بلداً متعدد القوميات والأديان والمذاهب، رغم أن هذا الوصف طبيعي في جميع بلدان الدنيا، إلا أن الغرض الرئيسي من ذلك كان تغييب تلك الهوية التاريخية للعراق من منطلقات دينية مذهبية، وأصبح لرجال الدين موقعهم الدستوري في سلطة الحكم، حيث نص الدستور على أن “للمرجعية الدينية استقلالها ومقامها الإرشادي” أي أن تكون هي المرجعية الرئيسية للسياسيين بعد مرجعيات الخارج، إضافة إلى ما احتواه ذلك الدستور من فقرات وبنود قابلة للتأويل بلغ عددها، حسب المختصين، أكثر من 73 استخدمت في تأجيج الصراع السياسي اللاحق، ولتمرير مصالحهم الحزبية، لأنه وضع قواعد النظام وفق تصورات الإسلام السياسي الذي لا يقبلون التنازل عنه.
ووصل بهم الحال إلى ارتكاب الكثير من الخروقات الدستورية والسياسية رغم الضجيج الإعلامي الذي يخرجون به أمام الرأي العام العراقي بنقدهم اللاذع لهذا الدستور الملغم، ويتذكر العراقيون كيف تم تطويع المحكمة الاتحادية العليا التي أنشئت خلال ولاية رئيس الوزراء في الفترة الانتقالية إياد علاوي، لتنفيذ أهدافهم في حصر السلطة بيد الأحزاب الشيعية، وسلبت هذه السلطة منه باسمها وبتوقيعها عام 2010 بما سمته حساب الفوز الانتخابي للكتلة الأكبر داخل البرلمان، وكان تفسيراً مهّد الطريق لولاية نوري المالكي الثانية.
وفي جميع محطات أزمات تقاسم السلطة كان الدستور أداة طيّعة للعب، وآخرها ما حصل في دعوة مجلس النواب الحالي بعد الانتخابات التي من المفترض أن تؤدي إلى انتهاء أعمال المجلس الحالي في الثلاثين من يونيو الحالي، وقيام مجلس منتخب جديد في ضوء النتائج التي لا بد من تصديق المحكمة الاتحادية العليا عليها. وقبلها بأيام عقدت جلسات استثنائية طارئة وتركت مفتوحة بخرق دستوري واضح يتنافى مع النظام الداخلي للبرلمان، لأنه لا يتضمن مثل هذه الأحكام. وبعد قيام مجلس الخاسرين في الانتخابات ذات صفة التزوير الملازمة لجميع الانتخابات منذ عام 2006 شُرّع قانون ألغيت من خلاله عمليات الفرز الإلكتروني التي أقرها ذات المجلس بعد انتهاء الانتخابات، وهي إجراءات سياسية غرضها محاولة استرجاع المواقع التي فقدتها زعامات كثيرة من بين الأحزاب السنية والشيعية، وفي مقدمتها رئيس البرلمان ونائباه الخاسران.
ولو كان الهدف الحقيقي هو تصحيح حالة التزوير لتمّ الخضوع إلى الإجراءات القانونية التي تلتزم بها مفوضية الانتخابات والجهات القضائية في البلد. ويمضي هذا المجلس في مخالفاته الدستورية بدعوته إلى تمديد عمره مخالفاً بذلك المادة الدستورية 56 والتي تقضي “بانتهاء عمر المجلس بأربع سنوات تقويمية ابتداء من انعقاد أولى جلساته”، عبر تبريرات الحفاظ على سلامة العملية السياسية وعدم حصول “فراغ دستوري” تماهيا مع استمرار الحكومة الحالية كحكومة تصريف أعمال وهذا ما حصل في دورتي 2006 و2010.
وفي هذا الوقت الذي تسود فيه هذا الفوضى السياسية نسمع كل يوم عن تحالفات بين الكتل الفائزة، وهي في الواقع ليست ثابتة وخاضعة للتغيير إلى حين الخروج من فوضى الانتخابات وما يصاحبها من مشكلات حرق الصناديق الانتخابية والاختلاف حول تفسيرات قرار المحكمة الاتحادية الأخيرة وعدم مصادقتها على الأسماء الفائزة. فمن تحالف “النصر- الفتح” الذي استمر أربعا وعشرين ساعة، ثم تحالف “سائرون الفتح”، يعلن الآن عن تحالف “سائرون- النصر” بخطوة تبدو مفاجئة للعراقيين الذين يراقبون المشهد بتوقعات عودة كتلة الأحزاب الشيعية مجددا إذعاناً لإملاءات قاسم سليماني، ويتصدر هذا الإعلان الجديد بيان ببنود تبدو جذابة في “عبور الطائفية ومحاربة الفساد وحصر السلاح بيد الدولة وقيام حكومة تكنوقراط قوية”، لكن هذه البنود تتحدث عن تحالف كتلتين شيعيتين ولم تدخل معهما كتل سنية أو كردية إلى حدّ الآن.
إن البلد ومنذ عام 2003 يعيش حالة الأزمات المتوالدة، وهناك غياب حقيقي للدولة والقانون والدستور يتم تكييفه حسب المصالح. ففي مجال الأمن الداخلي يتحكم السلاح خارج القانون بالشارع البغدادي والعراقي، وهناك مصادمات وضحايا خلفها قوى وجهات نافذة مرعبة للناس لا يمكن السيطرة عليها. وكذلك فوضى الاقتصاد والتجارة ونهب الأموال، وانهيار القطاع الصحي والخدمي، وانهيار القطاع التربوي إلى درجة قيام وزارة التربية العراقية قبل يومين بإلغاء امتحانات المادة الإسلامية لحصول سرقة لأسئلة الامتحانات. فأية دولة هذه التي لا تُحترم ودستورها الذي صنعته أقلام السياسيين أنفسهم مليء بالألغام مهان، وانتخاباتها مزورة وأمنها غائب وحدودها مباحة أمام الغير.