ويبدو أنّ الاصطفافات التي أفرزتها مرحلة الانتخابات النيابية في الجبل لا تزال سارية المفعول بعدها، في ظلّ تمسّك عون والوزير جبران باسيل بمراعاة ارسلان في التشكيلة الحكومية الجديدة، امتداداً لمسار التحالف الانتخابي- السياسي الذي نشأ بين الجانبين في الشوف وعاليه، بينما يتمسّك جنبلاط بالحصول على الحصة الوزارية الدرزية بكاملها من دون زيادة أو نقصان، ترجمة لانتصاره في الانتخابات بالتحالف مع «القوات اللبنانية».
وهكذا بدا الجبل وكأنه قد اصبح موضع تجاذب بين محورَين: ارسلان و«التيار الوطني الحر» في مقابل جنبلاط و«القوات». المحور الأول يحرّكه السعي الى تحقيق التوازن مع الحالة الجنبلاطية، سواءٌ على الأرض أو في السلطة، والمحور الثاني جمعته ما يرى أنها «مصيبة» النهم السلطوي والمنحى الاستئثاري لدى «التيار».
وما زاد في طين الحسابات الوزارية بلة، هو انقطاع الجسور بين جنبلاط وارسلان الى درجة القطيعة التامة تحت وطأة الخلاف المحتدم بينهما. وإذا كان الرجلان قد نجحا خلال سنوات طويلة في التعايش السياسي وتنظيم الخلاف لتحصين الاستقرار في الجبل وتحسين شروط الحضور الدرزي في السلطة، إلّا أنّ الهوّة عادت للاتّساع، أُفقياً وعمودياً، على وقع تباينات تصاعدية في مقاربة ملفات عدة، وصولاً الى حادثة الشويفات الاخيرة التي أعطت أخطر الإشارات الى تجاوز التنافس الدرزي الداخلي الخطوط الحمر، بعدما اصطبغ بلون الدم للمرة الأولى، منذ زمن طويل.
ثمّ أتت حصيلة الانتخابات لتكرّسَ الافتراق، بفعل تفاوت القراءات لها ولدلالاتها. جنبلاط يعتبر أنه خرج من المعركة الديموقراطية بانتصار كبير رسخ زعامته الدرزية وتمثيله للغالبية العظمى من أبناء طائفته استناداً الى أرقام صناديق الاقتراع، فيما يرى أرسلان أنه نجح في تثبيت موقعه وشرعيّته الشعبية داخل الطائفة بعرق جبينه الانتخابي وليس من خلال أيّ «هبة» كما كان يحصل أيام النظام الأكثري.
وحين أتى أوان صرف المكاسب النيابية الى مقاعد وزارية، ضاعت المعايير الناظمة مجدداً، بفعل الاستنسابية التي تتحكّم بقواعد التأليف. يصرّ عون وباسيل على تمثيل ارسلان في الحكومة الجديدة سواءٌ مباشرة أو بصيغة أخرى، في وقت نُقل عن باسيل قوله إنّ جنبلاط يحقّ له بوزيرَين درزيَّين وليس أكثر، لأنّ كتلته لا تمثل كل النواب الدروز، مضيفاً: «أنّ مطلب جنبلاط يحتاج لكي يتحقق الى تشكيل حكومة من 60 وليس 30 وزيراً، لأنه إذا كان «اللقاء الديموقراطي» المكوَّن من 9 نواب يريد أن يتمثّل بثلاثة وزراء، فماذا عن وضع الكتل الأُخرى التي تضمّ عدداً أكبر».
على الضفة الأخرى، لا مجال بالنسبة الى جنبلاط للخوض في دهاليز المساومة على أيٍّ من المقاعد الدرزية الثلاثة التي يريدها كاملةً، عملاً بالمعيار الذي اعتمده «التيار الحر» في انتخاب رئيس الجمهورية والمشاركة في الحكومات وهو أنّ الأفضلية هي للأقوى.
وتؤكد مصادر قيادية في «التقدمي» أنّ جنبلاط متمسّكٌ بطرحه المستمَد من الحقّ السياسي والشعبي المكتسب، مشدّدة على أنه يرفض مقايضة وزير درزي بآخر مسيحي، لأنه لا يوجد مبرِّر لمثل هذه المقايضة. وتستغرب هذه المصادر ترويج «التيار الحر» أنّ هناك عقدة جنبلاطية تعترض تأليف الحكومة، لافتة الى «أنّ العقدة الحقيقية موجودة عند مَن يرفض الخضوع لنتائج الانتخابات النيابية واحترام مفاعيلها». وتضيف: «لقد حقق وليد جنبلاط فوزاً كاسحاً في انتخابات فصّلوا قانونها على قياسهم ووفق ما يخدم مصالحهم بالدرجة الأولى، فهل المطلوب منه الآن بعد انتصاره أن يرضخ لإرادة جبران باسيل وليس لإرادة الناس.. إنّ هذا الأمر غيرُ وارد لا من قريب ولا من بعيد».
وتشير المصادر نفسها الى «أنّ الانتخابات حدّدت بنحوٍ حاسم وبلا التباس هويّة صاحب الحيثية التمثيلية الأوسع على الساحة الدرزية، فلماذا يحاول البعض تجاهل هذه الحقيقة؟ ولماذا تتمّ الانتخابات أصلاً إذا كان يُراد القفز فوق إرادة الناس عند تكوين السلطة؟».