يبدي رئيس حزب «القوات اللبنانية» في مجالسه السياسية والحزبية ارتياحَه الكبير للعلاقة مع الرئيس الحريري، وطريقة إدارته مفاوضات التأليف، وتمسّكه برؤية «القوات» لتمثيلها ونظرتها إلى الحكومة الجديدة ودورها، ويعبِّر عن سروره لعودة العلاقة بينهما إلى عصرها الذهبي، علماً أنّ جعجع كان يتطلّع دوماً إلى أفضل العلاقات مع الحريري، ولكنّ اعتبارات أربعة أدّت في مرحلة من المراحل إلى اهتزاز العلاقة من دون أن ينقطع التواصل بينهما أو الرهان على إحياء العلاقة كما كانت في مرحلة صعود ١٤ آذار.
وأما الاعتباراتُ الأربعة التي أدّت إلى الاهتزاز فهي:
1 - الاعتبار النيابي في ظلّ تمسّك رئيس «القوات» بقانون انتخابي جديد؛
2 - الاعتبار الرئاسي الذي يشكّل المسرحَ الأمامي والخلفي للتوازن الوطني والمسيحي-المسيحي والذي لا يمكن التهاونُ فيه، وذلك على غرار ما يرفض الحريري نفسُه أيّ تهاون بالتوازنات السنّية؛
3 - الاعتبار المتصل بالواقعية السياسية التي تعني عدمَ التراجع عن خطّ التسوية ورفض أيّ تهاون على هذا المستوى؛
4 - الاعتبار المرتبط بطريقة إدارة الدولة.
فبعد إقرار قانون انتخاب جديد وإتمام الانتخابات وانتخاب الرئيس ميشال عون، تمّ الاتّفاقُ أخيراً على ضرورة التمسّك بالتوازنات التي أرستها التسوية واعتماد مقاربة مختلفة في إدارة الدولة، وبالتالي أصبح التطابقُ بينهما كاملاً تقريباً، ومن دون الاستهانة بطبيعة الحال بالتوازن السيادي الذي يجب دوماً تأمينُه حتى لو أنّ الانقسامَ تحت هذا العنوان تراجع، حيث إنّ حكومةً من دون «القوات» تجعل الرئيسَ الحريري محاصراً في أيّ لحظة تُطرح فيها مسألة انقسامية أو تفرضها الأحداث نفسها، كما أنّ وجودَ «القوات» يوفِّر على الحريري لعبَ دور رأس الحربة على هذا المستوى بدلاً من أن يكون ضابط إيقاع جلسات الحكومة.
ومعروف أنّ الدكتور جعجع بقدر ما هو مبدئي بقدر ما هو براغماتي، فطوى صفحة الانتخابات صباح السابع من أيار، علماً أنّ تحالفاً بين «القوات» و»المستقبل» كان أعطى الأخير خمسة نواب إضافيين والأول أيضاً، و»الأهم» حرم «التيار الوطني الحر» من خمسة نواب بالحدّ الأدنى.
وفي المقابل لم يهضم النائب وليد جنبلاط طريقة تعامل الحريري معه انتخابياً إن في الإقليم او في البقاع الغربي، فشهدت العلاقة بينهما توتّراً رافق العملية الانتخابية واستمرّ بعدها قبل أن يعود وينتهي فصولاً في ظلّ علاقة تاريخية بين «المستقبل» و»الإشتراكي» قاعدتها الأساسية تحالفيّة، ولكنّ المناوشات تشكّل جزءاً منها وآخرها على خلفية نيابية، إنما الانتخابات كانت بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس في ظلّ شعور جنبلاطي أنّ الحريري وعلى أثر انتخاب الرئيس ميشال عون ابتعد عن ثلاثية الرئيس نبيه بري والحريري وجنبلاط، وثلاثية الحريري وجعجع وجنبلاط، وذلك لمصلحة ثنائية جديدة هي ثنائية الحريري والوزير جبران باسيل.
ومن الواضح أنه على الخط الأخير، لم تعد العلاقة كما كانت عليه، وهذا لا يعني أنها ستشهد تباعداً، إنما هناك ترسيم لحدودها في المرحلة المقبلة، الأمر الذي يؤدّي حكماً إلى إنعاش العلاقة على خطّ ثلاثية بري-الحريري-جنبلاط وثلاثية الحريري-جعجع-جنبلاط.
وفي كل هذا المشهد الداخلي وتطوّراته أتى تشكيل الحكومة التي يريد أن يضمن فيها الرئيس الحريري تحالفات وثيقة من طبيعة استراتيجية، وليس سرّاً أنّ ثلاثية الحريري-جعجع-جنبلاط تشكّل مطلباً يبدأ من الرياض ولا ينتهي في واشنطن، وهذا المطلب لا يعني تدخّلاً في الشؤون السياسية اللبنانية والدليل أنّ السعودية رفضت التدخّل في الانتخابات حتى عن طريق المونة على حلفائها، وبالتالي يندرج هذا المطلب في سياق التوازن داخل المشهد السياسي من أجل إبقاء لبنان ساحةً إنتظارية لما ستؤول إليه التطورات الإقليمية، ولا يعني إطلاقاً إحياءً لتحالف ١٤ آذار الذي لا ظروفَ سياسية له، كما أنّ المرحلة مفتوحة على أكثر من تحالف وتفاهم وتقاطع.
والاهتمام الخارجي لا ينحصر بثلاثية الحريري-جعجع-جنبلاط، بل أيضاً بثلاثية بري-الحريري-جنبلاط في ظلّ رهانٍ مستمرّ على الجناح الذي يمثله بري داخل الطائفة الشيعية، والذي على رغم ثوابته المعروفة يتجنّب الصدامَ مع عواصم القرار العربية والغربية، كما تجنّبه في السنوات الأخيرة الظهور بمظهر اللاعب الإقليمي كما فعل «حزب الله»، وهذا شكّل محطّ تقدير وتفهُّم لمنطلقاته اللبنانية.
وفي موازاة كل ذلك هناك ترقُّبٌ خارجيّ أيضا لدور «حزب الله» في المرحلة المقبلة وتحديداً لجهة الشعارات التي رفعها عن مكافحة الفساد، وما إذا كانت ستبقى مجرّدَ عناوين، أم أنه سيعمل على ترجمتها من خلال رفع منسوب انخراطه في جسم الدولة اللبنانية.
وبالعودة إلى المفاوضات الحكومية، فإنّ مَن تابع حيثياتها أعادته الذاكرة إلى السقف الذي كان يضعه «حزب الله» إبّان مفاوضات التأليف تحت عنوان أن لا حكومة من دون الاستجابة لمطالب الوزير باسيل، ولكن هذه المرة انقلب المشهدُ مع السقف الذي وضعه الرئيس الحريري بأن لا حكومة من دون الاستجابة لرؤية «القوات» و»الإشتراكي»، وأبلغ مَن يعنيهم الأمر مراراً وتكراراً بأنه ليس بوارد التراجع عن هذا السقف سوى في حال موافقة «القوات» و»الإشتراكي»، ولكنّ الفارقَ بين سقوف الحزب مع باسيل وسقوف الحريري مع ج-ج أنّ السقفَ الأول كان مبالغاً فيه كالعادة، فيما السقف الثاني يشكّل تجسيداً لأبعاد ميثاقية وتوازنات وطنية وتفاهمات سياسية.
فالمرحلة المقبلة مفتوحة على تحالفات على القطعة في ظلّ غياب الاصطفافات السياسية، ولكنَّ تمسّكَ الرئيس الحريري بوحهة نظر النائب جنبلاط والدكتور جعجع في مفاوضات التأليف سيرخي بظلاله على مرحلة ما بعد التأليف.