عاد رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري من باريس حاملاً معه بشائر التأليف، ناشراً جواً من التفاؤل بولادة الحكومة التي لا يزال دون تشكيلها عقبات عدة، منها التنازع على الوزارات أو "المغارات"، فبات لكل وزارةٍ مغارة ولكل مغارة علي بابا وأصدقاءه السياسيين.
وكما في كل بازار حكومي يطفو على سطح التأليف التنافس المشكوك به على بعض الحقائب، وإن كان بات الصراع على الحقائب السيادية "موضة" يستلزمها "بريستيج" الكتل "القوية"، فإن المعركة على الحقائب الخدماتية باتت دارجة أيضاً، ليس لأن هذه الوزارات تدخل في إطار الاحتكاك المباشر مع الناس وأوجاعهم، بل لأن فيها من السرقة ما يملأ جيوب المعنيين.
ليس خوفاً على صحة المواطن اللبناني يتنافس اليوم كل من حزب القوات اللبنانية، وحزب الله، وحزب التقدمي الاشتراكي، وتيار المستقبل، على حقيبة الصحة، بل لأسبابٍ تنفيعية كون في هذه الوزارة حركة مالية كبيرة.
أبواب الفساد كثيرة في وزارة الصحة، وفي مقدمتها ثلاثة، يعددها رئيس الهيئة الوطنية الصحية النائب السابق اسماعيل سكرية في حديثٍ لـ"ليبانون ديبايت".
أولها ملف الدواء، فحتى اليوم لا مبدأ واضحاً وثابتاً لأسعار الأدوية، وهناك تلاعب دائم بأسعارها، وتواطؤ واضح من الإدارة داخل الوزارة، بالإضافة إلى أن نوعية الأدوية التي نستعملها مجهولة لأنه ليس هناك مختبرات رسمية في لبنان لفحص الأدوية، بحسب سكرية. أما فرق التلاعب بأسعار الدواء يذهب لصالح شركات الأدوية والمتواطئين معها داخل الوزارة الأم.
وثاني الأبواب متعلق بالمستشفيات والسقوف المالية التي تحددها الوزارة لها، إذ بالإضافة للفواتير الوهمية التي ترسلها المستشفيات للوزارة، وتتم عبرها سمسرات كبيرة بالاتفاق بين الجهتين، هناك أيضاً توزيع غير عادل لهذه السقوف، إذ توزع في أماكن النفوذ السياسي وتأخذ بعض المستشفيات أضعاف ما تستحقه على حساب مستشفيات أخرى. كما أنه تمت إزاحة التفتيش المركزي عن الرقابة في المستشفيات وأوكلت مهمة الرقابة لشركتي تأمين خاصتين، مقابل مبالغ مالية خيالية تثير الشك والريبة.
أما ثالث الأبواب العريضة وأوسعها فساداً في وزارة الصحة، هو برامج الأمم المتحدة. ويقول سكرية عن هذا الباب "لا شفافية ولا وضوح بالنسبة لبرامج الأمم المتحدة، ولا أحد يعرف كيف وأين تُصرف مئات ملايين الدولارات، ودائما ما تكون البرامج بأسعار خيالية ولا شيء ملموساً على الأرض".
وعن القوى المتنافسة اليوم على حقيبة الصحة، يؤكد سكرية أننا "جربنا القوات والاشتراكي، وما جمع عهد الوزيرين السابقين أن الوزارة تحولت بخدماتها باتجاه فئة معينة غلب عليها الطابع الحزبي. وفي عهدهما وعهد من سبقهما لم يكن هناك مشاريع إصلاح جدية، باستثناء قرار يتيم للوزير السابق وائل بو فاعور، يكمن في تخفيض أسعار الدواء، الذي لم يتم الاتفاق عليه لاحقاً ودخل إطار الفوضى، الأمر الذي منع تطبيقه، كما أنه لم يتم اعتماد الشفافية ولا بأي عهد سابق بل بقيت برامج الامم المتحدة سرية.
أما تيار المستقبل، لم يسبق له أن تولى هذه الحقيبة، كذلك الأمر بالنسبة لحزب الله الذي أعلن حسن نية تجاه تسلّمها، انطلاقاً من إشهار سيفه على الفساد.
وفي ما يخص الحلول، والإصلاح أكثر من الضروري في وزارة مرتبطة لهذه الدرجة وبشكل مباشر بصحة المواطن، يشير إلى أن الأمور ليست قائمة فقط على وزير، فهذه الوزارة مغارة فيها تراث من الفساد على حساب صحة المواطن. ويرى أن أولى خطوات مكافحة الفساد في وزارة الصحة تكون عبر تطبيق أولى هي إصلاح داخل الإدارة في الوزارة. فبالإضافة للسمسرات القائمة ووجود موظفين تعاقب الوزراء على فسادهم، هناك خلل كبير داخل الإدارة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك طبيب أسنان مديراً للعناية الطبية، ومدير للوقاية ليس بطبيب.
ومن الخطوات التي يجب اتخاذها في الوزارة أيضاً، والتي نضعها بعهدة الوزير المقبل، اتباع الشفافية في برامج الأمم المتحدة، وتطبيق القانون في ما يتعلق بأسعار الدواء، تفعيل المختبر المركزي لمعرفة نوعية الأدوية التي نستعملها، واستعادة دور التفتيش المركزي وزيادة أعضائه لمراقبة وضبط الفساد في المستشفيات.