بعد انعقاد مؤتمر «سيدر 1»، اعتبرت جهاتٌ سياسية واقتصادية لبنانية أنّ لبنان وقع في قبضة الأمم، فعمليةُ إقراض لبنان بهذه الكثافة غير بريئة في وضع البلد المالي المزري. ورأت أنّ المساعدات، التي هي أساساً قروضٌ ترتّب ديوناً على الدولة اللبنانية، في ظلّ الفساد المُستشري و»التجربة الإصلاحية» الفاشلة للسلطة نفسها في أكثر من إستحقاق... ليست إلّا مٌسكِّناً لتحمُّل أعباء النزوح السوري وعدم تشريع المسار البحري أمامهم نحو أوروبا.
خطُّ التجاذب
تخبّطت القوى اللبنانية بعضها ببعض حول النزوح السوري إلى لبنان منذ بداية هذه الموجة بعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011، من فَتح الأبواب أمام النازحين، إلى إنشاء مجمع مخيمات للاجئين في عكار والبقاع... وصولاً إلى طرح «عودة اللاجئين»، خصوصاً بعد توافر أماكن آمنة في سوريا وبعد تخطّي تداعيات النزوح على لبنان الإشارة الحمراء. أما عقدة العقد في موضوع النازحين: التنسيق مع النظام السوري.
ففيما تعتبر قوى 8 آذار و»التيار الوطني الحر» أنه يجب التنسيق مع النظام السوري في عودة اللاجئين، يبدو أنّ هذه النقطة ما زالت إحدى الروابط القليلة المُتبقّية بين مُكوّنات ما عُرف بقوى 14 آذار. إلّا أنّ بعض الجهات، قد تشذّ عن موقفها الثابت برفض التنسيق في سبيل إنقاذ لبنان فوصل النائب الكتائبي نديم الجميل إلى حدِّ القبول بالتنسيق من أجل إزاحة خطر النازحين عن لبنان.
أمّا الرئيس نبيه بري فأعاد التأكيدَ على موقفه، وشدّد أمام ميركل أمس على «رفع مستوى التنسيق بين الحكومتين اللبنانية والسورية لمعالجة هذه القضية».
على ضفة الجهات التي تعتبر أن لا لزوم للتنسيق مع النظام السوري، تسأل مصادر تيار «المُستقبل»: «التنسيق حول ماذا؟ إن رفض النظام السوري عودة 2600 شخص من 3 آلاف اسم وارد ضمن لائحة اُرسلت إلى السلطات السورية المعنيّة أخيراً من الأمن العام؟. إذا نسّقنا مع الحكومة السورية حول مليون ونصف نازح، أيُّ عدد سيقبل النظام أن يُعيد؟ 200 ألف؟».
بدوره، يسأل وزير الشؤون الاجتماعية السابق رشيد درباس عبر «الجمهورية» «هل أوقفت القوى المؤيّدة للنظام السوري في الحكومة التواصل مع الحكومة السورية؟ فهم يتحاورون مع النظام السوري يومياً ويحاربون إلى جانبه. ألا يُمكنهم القول للجهات السورية، إنّ النزوح أصبح يُشكّل ثقلاً ديموغرافياً على لبنان، ومنطقة القلمون فارغة»؟ لكن الذي يُطرح اليوم، حسب درباس «ليس التواصل من أجل عودة السوريين، بل لينضمّ لبنان إلى هذا المحور، فيما البنية اللبنانية لا تتحمّل ذلك».
حراك «التيار البرتقالي»
حراك الداخل على الصعيدَين المحلّي والخارجي للدفع إلى عودة اللاجئين، يتصدّره رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والبطريرك مار بشارة بطرس الراعي. وبعد مواقف عون المُحذّرة من أعباء النزوح وضرورة عودة النازحين إلى بلادهم خلال لقائه وفوداً من الدول الغربية، آخرها ميركل أمس، وبعد الأخذ والرد بين الوزير جبران باسيل ومفوّضية اللاجئين، بدأ تكتل «لبنان القوي» حراكاً داخلياً لتسويق مقاربة لموضوع النازحين وعودتهم وإيجاد مساحة مُشترَكة بين الأفرقاء اللبنانيين، للخروج بموقفٍ مُوحَّد أمام الخارج ودفعه إلى احترام القرار اللبناني وسيادة الدولة اللبنانية.
هذا التحرّك الذي يقوم به التكتل الى القيادات الروحية ورؤساء التيارات والأحزاب والكتل النيابية، انطلق الأسبوع الحالي بزيارة الراعي، على أن تُستكمل الجولة إبتداءً من الثلثاء المقبل بزيارات متتالية لجميع الفعاليات الروحية والدينية والسياسية.
وقد وضع «التيار» ورقةً تتضمّن:
• مقاربة للوضع وأهمية معالجته، انطلاقاً من أنه موضوعٌ سيادي.
• طرح مجموعة تساؤلات حول أداء المجتمع الدولي.
• أمثلة عن أشخاص يحملون صفة نازح فيما أنهم لا يتمتعون بهذه الصفة.
• أمثلة عن تعامل بلدان أخرى مع موضوع النازحين، ورضوخ المجتمع الدولي لسيادة هذه الدول.
وتوضح مصادر «التيار» لـ «الجمهورية»، أنّ اللقاءات مع كل الأطراف تحدّد كيفية البدء بتنفيذها، وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية. وتشدّد على «أهمّية إيجاد طرح وطني موحّد حول النازحين، يُخضع المجتمع الدولي للحلّ اللبناني».
مقاربة «التيار الأزرق»
أمّا تيار «المستقبل» فيعتبر أنه يجب أن تكون مقاربةُ ملف النزوح السوري جدّيةً ومنطقية. وترى مصادر «المستقبل» في حديثٍ لـ»الجمهورية» أنه «لغاية الآن لا بادرة سياسية أو أمنية تُشجّع 20 في المئة من النازحين السوريين على العودة الى سوريا. لذلك، عملياً أيّ بادرة في هذا الإطار يجب أن تتمّ بالتنسيق الجدّي مع الدول المانحة والمؤثرة، والدولة الأكثر تأثيراً في سوريا حالياً هي روسيا.
والعمل الجدّي يكون بإيجاد فهم مُشترَك يستند إلى إنشاء مناطق آمنة داخل سوريا للنازحين السوريين الموجودين في لبنان، وتوجيه كل الدعم المالي ومقدّرات الدول المانحة الى هذه المناطق لتشجيع النازحين وتحفيزهم على العودة».
وتعتبر أنّ الحراك الحقيقي يكون «في إيجاد تفاهم جدّي بين القوى السياسية اللبنانية لإجبار النظام السوري على إنشاءِ مناطق آمنة ترعاها الأممُ المتحدة وقوات دولية أو القوات الروسية».
وترى أنّ «عدا عن ذلك، كلّ الآليات التي ستُطرح وتستند إلى أيِّ أسلوب من الأساليب، خارج إمكانية التحقيق، والدليل بعد ذهاب وزير الخارجية جبران باسيل شخصياً إلى عرسال، وإرسال لائحة تضمّ 3 آلاف اسم لإعادتهم إلى سوريا، وافق النظام السوري على أقل من 400 منهم». وتقول: «إن عملنا كلّ أسبوعين أو ثلاثة على إرسال 3000 اسم من مليون ونصف، فذلك يعني أنّ النازحين لن يعودوا إلى سوريا قبل 30 عاماً».
التجاذب مع UNHCR
بعد تجميد باسيل استقبال طلبات الإقامة الخاصة بموظفي مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان، بسبب «تخويف المفوضية النازحين لثنيهم عن العودة إلى سوريا»، وربط باسيل الرجوع عن قراره بتغيير المفوضية لسياستها المُعتمدة في هذا الموضوع، أعلنت المفوضية أمس، أنها مستعدّة للتشاور بموضوع النازحين وعودتهم الى سوريا، كذلك وافقت على اقتراح باسيل القاضي بتقسيم النازحين لفئاتٍ تمهيداً لتنظيم عودتهم.
وإذ شدّدت على أنها ليست بوارد تشجيع العودة الآن، أكّدت أنها لن تقف بوجه مَن يريد العودة الطوعيّة أفراداً أو جماعات، كما أنها وافقت على مشاركة وزارة الخارجية والمغتربين بداتا المعلومات.
سياسة الـUNHCR المثيرة للريبة حول النازحين، لا تختلف عمّا كانت تقوم به في السابق، ويكشف درباس لـ»الجمهورية» «أننا لطالما كنا في حالة تجاذبٍ واختلافٍ مع المفوضية».
وبعد التطورات في هذا الملف الضاغط، يشرح درباس أنه كي يكون موضوع عودة اللاجئين طرحاً جدّياً، يجب أن يتمّ الاتفاقُ على النقاط الآتية:
أولاً، أنّ هذا الموضوع ليس محطّ تجاذب واختلاف بين اللبنانيين أو بين الطوائف اللبنانية.
ثانياً، إعلان حال طوارئ وطنية وسياسية في مجلس الوزراء، وأن يكون كل الشعب اللبناني شريكاً فيها، من أجل استنباط الخطط وابتكار الوسائل من أجل عودة اللاجئين. ويجب التفاوض مع الروس والأميركيين وغيرهم لتأمين عودة النازحين إلى بلادهم، وعوض أن يُنفق المجتمع الدولي عليهم في بلاد اللجوء يُنفق عليهم في بلادهم.
ثالثاً، إرسال وفود إلى كل البلدان المعنيّة وإعلان طلب العودة بلا هوادة عبر كل المنابر العالمية.
رابعاً، تطبيق القانون لجهة أنّ كلّ مَن يذهب إلى سوريا يفقد صفة اللاجئ.
يظهر أنّ جميع الجهات في لبنان تُجمع على ضرورة عودة النازحين السوريين، ويُمكن إيجاد أرضيّة مشتركة والاتّفاق على آلية موحّدة لتحقيق هذه العودة. ولكن هل سيتمكّن لبنان من فرض إرادته؟ وماذا إن أصرّ المجتمع الدولي على وضع لبنان بين خيارَي «النهوض الاقتصادي المشروط بإبقاء اللاجئين... إلى حين» أو نزع آلة الأوكسيجين عن المريض الذي يُحتضر اقتصادياً، إن تجرّأ وتمرّد؟
يبقى أن نردّد ما نقلته مصادر عن عون، بقوله لميركل أمس: «لا نريد أن نموت والنازحون لا يزالون في لبنان».